"من هو هذا المتوتر القلق الذي يركض في قلب تمثاله هرباً من الفناء، ولكن إلى أين؟ ومن هو هذا الذي صار التمثال يتأبى عليه ويكتم أنفاسه، فيصرخ: "هل نسيت يا مولانا أن الزمن قد تغير؟". الأول هو صاحب أول انقلاب عسكري في التاريخ، وباني أول إمبراطورية في الشرق: سرجون الأكادي. أما الثاني فهو مصطفى عثمان الموظف في المتحف، والذي تبدأ رواية الكاتب السوري حسن صقر "امرأة قرب التمثال" بكابوس حرائقه وهتفته: "أنا خشبة مسرح تتصارع على ظهرها النيران والمياه، أي إنني حزمة من التناقضات التي لا تحتاج إلا إلى إزالة الصاعق كي تنفجر". ابتدأت الرواية بالصاعق، أي بتسريح مصطفى، فانفجر، أي جاءت الرواية التي منعت رقابة "اتحاد الكتّاب" طباعتها في سورية عام 2001، فصدرت اخيراً في بيروت دار أحمد. على وقع إشهار المدير للقرار الصاعق، يمضي يوم مصطفى بالرواية إلى منتصفها، ثم تمضي تطوحات حياته بنصفها الثاني. وعبر ذلك يقصّ ما مضى وما يجدّ في حياته، كما تفعل شخصيات أخرى، في دفق من الأحداث والأفكار والخوارق والأحلام والكوابيس. فيما الزمن يتلاطم منذ سرجون الأكادي إلى صلاح الدين الأيوبي إلى يومنا "بأكثر الطرق مواربة، وبأشد أنواع المكر والدهاء" كما تعلن الميتا رواية في نهزتها الصغيرة، وهي تنصّ على أن يسير المحور الواقعي والمحور الرمزي الملحمي معاً، إلى النهاية التي لا يتوقعها القارئ. وعبر ذلك تأتي الميتا رواية بهذه الوصية: "يا فتى أنت لا تستطيع أن تكتب سوى قصة واحدة وهي قصتك، بعد أن تكون قد حفظتها آلاف المرات ونسيتها ثم استعدتها، ومزجتها مع آلاف القصص الأخرى التي تتقاطع مع قصتك أو تتصارع معها أو تلغيها". لكن النهزة الكبرى للميتا رواية تأتي في محاولة مصطفى كتابة ملحمة عن سرجون، وهو الذي حاول من قبل في رواية عَنْوَنَها ب"الميراث". ففي الحوار - الصراع بينه وبين زوجته مديحة ينجلي نشدانه لإحياء جنس أدبي قديم يتبصّر الماضي في الحاضر. غير أن مديحة تريد لمصطفى أن يغمض عينيه عن الحاضر، ويحيي الماضي. بينما تراوده تركيبة من الإلياذة والأوديسة، تستعير الشكل فقط، على أن يكون في مركز الأحداث مصير اسماعيل نداف الذي اجتذبه من قريته نبع العسل ذلك الأفّاق حسيب ونّوس إلى الشام، بغواية الوظيفة، فتطوّح من فخّ القوادة إلى فخّ احتجاز الراهن في "أوتيل سميراميس" - من لا يزال يذكر ذلك الحدث الدراماتيكي قبل ربع قرن؟ - فالهجرة إلى الكويت، فاجتياح شخص ما لها بعسكره الجرار، فالحرب - حرب الخليج الثانية - فالقبض على اسماعيل أثناء التراجع على أنه جاسوس دولي، ونجاته من الإعدام، وعودته مشياً إلى قريته على الطريق التي سلكها من قبل سرجون الأكادي ليبني إمبراطوريته بفضل الحمار، لا الحصان. يتطلع مصطفى الى ملحمة العصر الحديث ، حيث طروادة هي الكويت وأحياناً بغداد، وهيلين هي النفط وأغاممنون هو جورج بوش الأب، وابن ملك طروادة المدافع عن مدينته هو الابن الأكبر للقائد التاريخي الذي يفتك بالناس الآن. ومن قبل، نرى مصطفى يماحك مديحة في جلجامش الذي "أصابته الرهبة وجزع حكامنا إزاء حضور الموت، وكل واحد فكر في الخلود على طريقته الخاصة. جلجامش يطلب العون من سيدوري فتدله على الحكيم أوتنابشتيم الذي أنقذ الحياة من الطوفان، فكافأته الآلهة القديمة بمنحه معرفة سر الخلود. وهم لجأوا إلى مبتكرات الطب الحديث كي يتغلبوا على الشرط البيولوجي مما يمكن كل واحد منهم من أن يحكم ألف عام". بحسب مصطفى: كل عاصمة عربية هي أوروك بلا أسوار. وما مسخ أنكيدو إلا لأن السلطة التشريعية ارتجفت أمام الحاكم، ولم يتمكن أحد من الإجهاز على حارس الأرز خمبابا الذي قام عندنا في صورة بن غوريون. ولكن "بدلاً من القضاء على خمبابا، حولت الجحافل الثورية البرلمانات إلى خرق بالية" فحلت الفجيعة، وقضى أنكيدو، بينما ذلك الرجل البسيط الذي يقود زورق جلجامش في مياه الموت، يؤكد له: "ما من خلود سوى ذلك الموجود في محبة الناس والأعمال الجليلة". وسيتلامح هذا النزوع الملحمي لرواية "امرأة قرب التمثال" في كثيرٍ منه غناء النساء، وفي المصادفات وفي الخوارق التي تطوي الزمن وتحيي الأموات. وفي المقابل، لا تفتأ الرواية تسعى إلى أن تكون نفسها، ملوّحة بنسبها الحداثي في تلك المقاطع التي ينثال فيها السرد على لسان مصطفى مرة وعلى لسان شكرية مرة. ولئن كانت رواية حسن صقر تنادي التدميرية التامرية - نسبة إلى زكريا تامر كما تنادي الفانتازيا الروائية العربية المتواترة والقائمة على جنون المخيلة، فهذه الرواية تنادي أيضاً النسب الروائي بين الملحمة وبين القطع معها - أين هو لوكاتش على الأقل؟. عبر تمثال سرجون الذي يعده مصطفى أول من حقق قمع الدولة، يتركز النزوع الملحمي الروائي. فمن هذا التمثال الذي "يعبر عن كائن محطم يطارده الزمن ويحمل شرور الدنيا"، ستتفجر حكاية اسماعيل نداف وسواه. ومصطفى يتساءل: "من يضمن لنا أن هذه الكتلة الرخامية لا تميط اللثام عن وجهها فتطاردنا حتى في مخادعنا؟". وإذا كانت روايات إدوار الخراط ومحمود طرشونة وأهداف سويف وسواهم قد سبقت هذه الرواية إلى إحياء تمثال أو تقمّصه أو ترميمه - وإلى تهريب الآثار - فها هو مصطفى متهم بتدنيس المقدسات، إذ يحول سرجون إلى أضحوكة، والمتحف إلى سيرك يرقص فيه أبطالنا كي يسروا عن الأجانب، فيما نفتح قبعاتنا ونتناول بعض القروض. ولذلك حُقَّ على مصطفى العقاب، وهو الذي يرى أولاء الموتى "يخرجون من تماثيلهم كلما نسيناهم ويثيرون الشغب طالبين منا أن نحررهم من موتهم هذا، فنأتي بالمواد الكيماوية السامة، ونطليهم فيها كي نزيدهم موتاً". وها هي آثارنا تجوب العالم بيعاً وشراءً: "إنها الحضارة الجاهزة للبيع على قارعة الطريق". وما دام الأجنبي يكتب تاريخنا ويصنع لنا زعماء الحاضر، فماذا يمنع اللجوء إليه لإيقاظ أولاء الموتى من مراقدهم، وتقليدهم أوسمة البطولة؟ ليس للجسد من تمثال سوى الروح الذي ينبض فيه، والعكس صحيح، كما يجلجل مصطفى. ولذلك يرى المتحف موتاً تسلسلياً ينتمي إلى أزمنة وأمكنة شتى، بينما يبحث كل منا عن ديكتاتوره ليعلقه أيقونة في صدره. وإذا لم يصنع الديكتاتور/ الأيقونة/ التمثال/ نفسه، نسارع إلى تصنيعه. وهكذا "سرت في الناس حمى سرجونية وتقاطروا من كل مكان وداروا حوله وتحسسوه وشربوه وأكلوه وناجوه وألّهوه وسحقوه واستجدوه وكفروا به وباعوه وسجدوا أمامه وقالوا له: لا تتخلَّ عنا يا معذبنا فنحن بحاجة إلى من يضطهدنا. وآخر ما قاموا به أن صنعوا منه سرجونات لا حصر لها وذهبوا إلى منازلهم". بمثل ذلك تعري وتهجو الرواية أمسنا ويومنا، متوسلة المبالغة والسخرية والكاريكاتيرية، حتى لتذكّر بمسرحية "كاسك يا وطن" حين يلتقي مصطفى بأبيه وصلاح الدين الأيوبي في واحد من كوابيسه وأحلامه. والطغيان الطريف التليد يسكن مصطفى ويُحَيْونه في اليقظة والمنام، حيث يتوحد الأستاذ - في امتحان الانتساب إلى الجامعة - بالأب بالمدير بسكرتيرته.. وبهميون والمعتز ممن يعيثون فساداً في البلد المتطوح بين الشام - دمشق - الميتة والثرية، والشام الحية التي ترتكب الفواحش، والمسلوخة من جهنم، بحسب اسماعيل نداف الذي يشبه خيمة القوادة في الشام بخريطة الوطن العربي. والبلد يتطوح أيضاً في ذلك المعتقل الاختياري أو المتحف البشري الذي يتجاور فيه الناس والأشياء بقيم متقاربة: إنه حي جب البيبا حول المدينة البحرية، حيث مقام مصطفى، وحيث تطبق على الأعناق الدعارة بقبضة أم نعيم، ويسعى مصطفى إلى أن يقيم لزوجها تمثالاً، إمعاناً منه في "مرمغة" الطغيان الذي قد يكون نخره الأكبر في تكوين مصطفى، هو ما يستذكره من تجربته الحزبية، حيث يتعالى "الأستاذ المؤسس" العبقري الملهم، وآخر أدعياء القومية العربية الذي يتحدث عن الحزب بطريقة أهل الرؤى، لكأن الحزب حلقة صوفية، وليس حزباً سياسياً. ولعل إشارات مصطفى تعيّن الأستاذ المؤسس والحزب حين يتحدث عن ارتقاء الأعضاء - المريدين ليقدروا على إعادة "تجربة انطلاقة الرسالة الخالدة التي حملها العرب إلى العالم". وكذلك حين ينقل مصطفى نظر المؤسس للمعارك على أنها "بعث الأمة من مرقدها". لكن رقص الأعضاء ونقر المؤسس على الدف سينتهي إلى الهستريا الجنونية. وعندما تستيقظ النخبة من سباتها، تصل أيديها إلى الدبابات، ويكون المؤسس أول الضحايا. لذلك بكّر مصطفى في الخروج من الحزب "أريد أن أكون شاهداً على الكارثة. وليس مشاركاً فيها". على عتبة سرد مصطفى لحزبيته يجأر: "أسرعي يا سورية فالأمر في غاية الخطورة". وبمثل ذلك تجأر الرواية، وهي تنتهي بمصطفى إلى الجنون والمحاكمة بجريمة العصر، جريمة اللاوعي، الجريمة الفلسفية التي ليست غير نوع من توكيد الذات - كما تجأر مديحة في المحكمة - تجاه جمهور متعطش للعقاب، ودولة البلاط المفكوكة التي يعينها مصطفى أيضاً بظاهرة مسرحية، تريد جنوناً مسرحياً يحول صاحبه إلى مهزلة، كي يتسلى به العقلاء. تلك هي الرواية التي نجت شخصياتها من سطوة الذات الساردة مصطفى، فتفردت، على رغم أن الحلم والهلوسة هما وسيلة السرد الكبرى للجميع. ولعل تلك النجاة لم تتحقق فقط بلفحة الغموض، ولا بتكسير الزمن، ولا بتخليص الوصف من المحاكاة، بل بتفريد النظر إلى الأشياء، وتحوير الواقع وتلوينه بألوان الذوات الواصفة. أما المغامرة الكبرى لرواية حسن صقر، فكانت في ما يندر أن تغامر فيه الرواية العربية، أي في فخّ الفلسفة - لنتذكّر الميلودي شغموم. وعلى رغم مما قد يقال في نثار الأفكار أو الشخصيات والأحداث العابرة، فقد قدمت رواية "امرأة قرب التمثال" ذلك الإحساس العميق بالقضايا الإنسانية وبالمصير البشري، بالعلاقة الحوارية بين مختلف أشكال الوعي، ووحّدت بين الفكرة وحاملها، فنجت من ميكانيكية توزيع المعارف والأفكار، ومن رهق التفسير والفكرة الجاهزة، بالكلمة التي تخبر وتصوّر وتحكي، فإذا بالفلسفة والتاريخ يسريان في نسغ الرواية، والرواية - بالحوار والسخرية والكوبسة و.. - تفكك الذات المعصوبة - مفردة وجمعاً، والعالم المعصوب، في هذا الزمن المعصوب.