سوف تتعرض وكالتا الاستخبارات البريطانية والأميركية، خلال الأشهر القادمة، إلى تفحص مكثف وغير مرحب به. ويبدو كل من جورج تينيت، مدير الوكالة المركزية للاستخباراتCIA ، وريتشارد ديرلوف، مدير جهاز الاستخبارات البريطاني MI6، مهددين في وظيفتيهما، إذ اتضح جليا اليوم أن المعلومات التي أدت إلى شن الحرب على العراق كانت مفجعة بخطئها. لم يتم إيجاد أسلحة دمار شامل - لا نووي، ولا كيماوي، ولا جرثومي- في العراق، مع أن وجودها المزعوم و"الخطر الوشيك" الذي تشكله هذه الأسلحة وفرا الحجج الأساسية لشن الحرب. كما لم تثبت أي صلة بين صدام حسين وعمليات 11 أيلول سبتمبر 2001 الإرهابية، مع أنه تم الإعلان بصوت عال، عن هذه الصلة، خاصة في الولاياتالمتحدة، لشرح ضرورة "قلب النظام" في العراق من أجل ضمان أمن أميركا. تشكل هذه الأخطاء في المعلومات فضيحة كبرى سوف يدوّي صداها لسنوات طويلة في الأجهزة الحكومية البريطانية والأميركية. ولا بد أن يسقط من جرائها بعض الضحايا من بين السياسيين وفي أوساط المخابرات، وإن لم يتم الإعلان عن هذه الأخيرة. وربما تمر سنوات قبل أن تتضح الصورة كاملا. فعلى من يقع اللوم؟ على الجواسيس أم على رجال السياسة؟ تدور المعركة حول تحديد المسؤولية في الفشل الذريع ليس فقط بين الوكالات المعنية ومسؤوليها السياسيين، بل أيضا في داخل كل جهاز وفي ما بين هذه الأجهزة، خاصة في أميركا حيث تبلغ كلفة أجهزة المخابرات بالنسبة إلى دافع الضرائب الأميركي مبلغ 40 بليون دولار في السنة. ويدخل في الحساب العديد من الوظائف المربحة والميزانيات الضخمة. فهناك في الولاياتالمتحدة 15 وكالة تقوم بجمع وتحليل المعلومات من بينها ستة أجهزة ذات أهمية، هي الوكالة المركزية للاستخبارات، ووكالة استخبارات الدفاع، ووكالة الأمن القومي المسؤولة عن التنصت الالكتروني عبر العالم والتي تستخدم عشرات آلاف الموظفين، وإدارة الاستخبارات التابعة لوزارة الخارجية الأميركية، وإدارة المعلومات داخل وزارة الطاقة، والوكالة الوطنية للتصوير والخرائط التي تدير العديد من أقمار التجسس الصناعية. ويقوم مجلس الأمن القومي بتجميع وطبخ الكم الهائل من إنتاج الوكالات الست لصياغة ما يسمى ب"تقديرات الاستخبارات القومية" التي تقدم للرئيس وغيره من الزعماء السياسيين. وتقوم بشكل مشابه "لجنة الاستخبارات البريطانية المشتركة" بجمع وفحص المعلومات التي تأتي من مختلف أجهزة الاستخبارات البريطانية لتقديمها إلى رئيس الحكومة وأعضائها. ويتحكم نظريا مدير الوكالة المركزية للاستخبارات بكافة أجهزة المخابرات الأميركية، إلا أن كل وكالة تتمتع بالواقع باستقلالية واسعة وتحافظ كل منها على سر ملعبها. مكتب التخطيط الخاص تتميز الساحة الأميركية بتعقيد إضافي هام، حيث لم يكن الصقور الذين أصروا على الحرب ضد العراق في واشنطن، ومن بينهم بول ولفوفيتز ودوغلاس فيث الرجلان الثاني والثالث في البنتاغون، وريتشارد بيرل الذي كان يترأس مجلس سياسة الدفاع، إلى جانب زعيمهم السياسي وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، مستريحين للمعلومات التي أتتهم من وكالات الاستخبارات الأميركية. وكان يسعى هؤلاء بأي ثمن إلى اتهام صدام بالصلة مع تنظيم القاعدة وبأنه على وشك الحصول على قدرة نووية، فقاموا بإنشاء وحدة استخباراتهم الخاصة داخل وزارة الدفاع لإنتاج معلومات مثيرة تناسب مزاجهم حول أسلحة الدمار الشامل التي يملكها صدام حسين. وعرفت وحدة الاستخبارات هذه ب"مكتب التخطيط الخاص" الذي كان وثيق الصلة بأحمد الجلبي وغيره من المعارضين العراقيين غير الموثوق بهم، بالإضافة إلى صلة هذا المكتب بجهاز الموساد الإسرائيلي. وقد نقلت الصحف الأميركية أنه كان يسمح للعملاء الإسرائيليين بدخول البنتاغون دون أي إجراء، عن طريق دوغلاس فيث. ولم يلعب مكتب التخطيط الخاص لعبة الإجماع مع وكالات الاستخبارات الأميركية المعتمدة، بل كان يتجاوز القنوات البيروقراطية الاعتيادية المكلفة تحليل المعلومات والتدقيق فيها، ويقدم معلومات أولية مباشرة للرئيس أو لزعماء سياسيين آخرين، معتمدا على مصدر واحد في معظم الأحيان. ويبدو أن الوكالة المركزية للاستخبارات فقدت سيطرتها على تدفق المعلومات التي تُبنى عليها القرارات السياسية. فقد تم تحييد مجموعة الاستخبارات العملاقة الأميركية فيما اتُخذ قرار الحرب على أساس معلومات "مسيّسة" للغاية ومزيفة في كثير من الأحيان. ولا شك أن الوكالة المركزية سوف تسعى إلى تصفية حساباتها مع الرجال الذين أقاموا مكتب التخطيط الخاص والذين أفسدوا سمعة مجموعة الاستخبارات الأميركية بأسرها. سوف تحدد نتيجة الحملة الانتخابية الأميركية مصير صقور واشنطن، القريبين من حزب ليكود الإسرائيلي، والذين دفعوا أميركا إلى الحرب ضد العراق. وقد التحق توني بلير بهذه الحرب، بأسف معظم الناخبين البريطانيين، لأنه خشي بدون شك أنه إن لم يدخلها، على ما فعلت كل من فرنسا وألمانيا، فسوف تتهدد "لعلاقة الخاصة" بين بريطانيا وأميركا. لقد أصبح جون كيري الآن مرشح الحزب الديموقراطي الأرجح للانتخابات الرئاسية. وقد صرح مؤخراً: "لقد قاومت طول حياتي المصالح القوية، والآن فقط بدأت معركتي. فلدي رسالة لكل بائعي النفوذ المتجولين، وللملوثين، ولشركات الأدوية، وللنافذين في النفط ولكل أصحاب المصالح الخاصة الذين يعتبرون البيت الأبيض بيتهم، بأننا آتون، وانكم راحلون. فتجنبوا دفع الباب بقوة وأنتم خارجون". وبدا ذلك تحذيرا واضحا لصقور واشنطن. ولسوف يسعى رجال السياسة على جانبي الأطلسي، خلال الأشهر التي تسبق الانتخابات الأميركية، إلى تحميل أجهزة الاستخبارات مسؤولية الفوضى في العراق. وسيكون من المثير متابعة تصرف وكالات الاستخبارات - أو بعض المرتدّين منها - في حال قررت أن تدافع عن نفسها. فلن يقبل الجواسيس أن يكونوا كبش الفداء لهذا الفشل المكلف، لأنهم يعلمون أكثر من غيرهم كيف تم التلاعب بالمعلومات أو توظيفها سياسياً بهدف الدفع إلى الحرب. لجنتا تحقيق لقد وافق كل من الرئيس جورج بوش ورئيس الحكومة توني بلير على مضض، ونتيجة لضغط شديد من الرأي العام، على إقامة لجنتين، واحدة أميركية والأخرى بريطانية، للتحقيق في المعلومات التي أدت إلى الحرب. لكن كلاً من الزعيمين فصّل لجنته بشكل يتوافق مع احتياجاته السياسية. فقد تم إعطاء اللجنة الأميركية، المتوقع أن يرأسها برنت سكوكروفت، مستشار الأمن القومي السابق لجورج بوش الأب، مهلة 18 شهراً لإنهاء عملها. مما يعني أنه لن يُنشر تقريرها قبل الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني نوفمبر القادم. وسوف يسمح ذلك لجورج بوش التهرب من الأسئلة المحرجة حول الحرب خلال حملته الانتخابية إذ سيقول إنه ينتظر أن تبين اللجنة الحقيقة. وعلى كل حال، فقد كلف اللجنة بمهمة واسعة لدرجة أن التحقيق في الحرب ضد العراق سوف يتحول إلى التدقيق في فشل الاستخبارات الأميركية في مختلف قضايا الإرهاب، والبرامج النووية، ليس فقط في العراق بل أيضا في الهند وباكستان وإيران وكوريا الشمالية وليبيا وغيرها. أما لجنة التحقيق التي أقامها بلير، فمهمتها محدودة للغاية، إذ عليها أن تحقق بنوعية المعلومات التي دفعت إلى الحرب ضد العراق، وليس بكيفية استغلال السياسيين لهذه المعلومات. أي بعبارة أخرى، لن تحقق اللجنة بالأسباب التي دفعت توني بلير إلى الالتحاق بحرب بوش. لقد أثار هذا الرفض لمعالجة القضية السياسية المركزية انتقادات واسعة مما حمل حزب الليبراليين الديموقراطيين - وهو الحزب الثالث في بريطانيا بعد العمال والمحافظين - إلى رفض المشاركة في لجنة التحقيق. ويبدو اختيار بلير للورد بتلر، سكرتير الحكومة السابق لمارغاريت ثاتشر، لترؤس اللجنة الجديدة شبيها باختياره السابق للورد هتون كرئيس للجنة التحقيق في وفاة خبير الأسلحة الدكتور ديفيد كيلي. إذ يمكن الاعتماد على كل من روبرت بتلر وبرايان هتون بصفتهما شخصيتين مخلصتين للمؤسسة لجهة عدم زعزعة الموقف. * كاتب بريطاني مختص في شؤون الشرق الأوسط.