يعود اكتفاء الحاكم العربي بالحدود الدنيا و"الممكن" إلى مرضين عربيين مزمنين، أولهما بلادة الإعداد، أي التقاعس عن توفير الأدوات اللازمة للمواجهة. فعلى عكس إسرائيل وحلفائها الأميركيين الذين ظلوا طوال سنوات أوسلو، يعدون لإستكمال مهمة "حرب الإستقلال" 1948 عمدت الأنظمة العربية إلى الإسترخاء على المستويات كافة، خلال الفترة الزمنية نفسها، ظناً منها أن أميركا ستأتي إليها ب"سلام أوسلو الممكن" على طبق من فضة. لذلك كان للحملة الإسرائيلية التي جرى التمهيد لها إعلامياً في صيف 2000 قبل إطلاقها عسكرياً في أيلول سبتمبر من العام نفسه وقع المفاجأة على الأنظمة العربية التي أصيبت بالذهول وهي ترى المستحيلات تتساقط واحدة وراء الأخرى. فمن تربع شارون، المنبوذ دولياً منذ مجزرة صبرا وشاتيلا، على رأس الحكم في إسرائيل، إلى تواطؤ الإدارة الأميركية معه وتبريرها لعمليات القتل الجماعي لمدنيين عزل بدعوى "الدفاع عن النفس"، إلى إجتياح الضفة الغربية وسكوت "المجتمع الدولي" على إعادة إحتلال المدن الفلسطينية، وسكوت الغرب "المسيحي" على محاصرة وقصف كنيسة المهد، ثاني أكبر المقدسات المسيحية. وعلى رغم تحذير المعارضين العرب بأن المواجهة قادمة حتما، وأنه لا مفر من الاستعداد لها، أصرت الأنظمة على الاستسلام لمخدر الوعد الأميركي بأن النجاح "ممكن" من دون الحاجة إلى خوض مواجهات، وذلك في الوقت الذي كانت إسرائيل تعد جنودها وترسانتها للمواجهة المقبلة. أما المرض الثاني فيتعلق بشغف العرب بخلط المفاهيم للتغطية على الفشل. فالهزيمة تنقلب إلى نصر، والجبن يتحول إلى شجاعة. وفي المسألة الفلسطينية، يتحول الطموح عند أتباع "الممكن" والحلول الوسط إلى تطرف وراديكالية، حتى ولو اقتصرت مطالب الطامحين على الأخذ بالأسباب المؤهلة للاحتفاظ بالممكن الحالي. كما يتحول التفريط في حقوق الغير إلى "قناعة بالممكن المسموح به". والنتيجة الطبيعية لهذا الفكر السقيم هي العجز عن بلوغ أي ممكن. وهكذا أبدع العرب على مدار نصف القرن الماضي في تصفية كل ممكن، بينما كان الصهاينة في المقابل يبدعون في التمكين لكل مستحيل حتى تحول الصراع إلى مسلسل يعاد تكرار أحداثه مرة كل عقد من الزمن: ضغوط صهيونية ديبلوماسية أو عسكرية أو اقتصادية أو نفسية أو خليط من بعض أو كل ما سبق، يعجز العرب عن الصمود أمامها، فيتطوعون بخفض سقف توقعاتهم وتقليص الممكن المتاح، فيسقط مستحيل آخر كان من الصعب تخيل سقوطه. فالمشكلة مع "الحد الأدنى" هي عدم ثباته وقابليته للانكماش مع تصاعد وانتشار ضغوط الخارج من ناحية، والإزدراء بنصائح وتحذيرات الداخل من ناحية أخرى. إسرائيل في المقابل لا تطلب سوى الحد الأقصى، الذي هو أيضاً لا نهاية واضحة له ويتصاعد بالنسبة نفسها التي ينخفض بها الحد الأدنى العربي. وتعتمد طبيعة الضغوط وشدتها على المستحيل المراد إسقاطه. وحيث أنه لم يبق إلا أصعب مستحيلين مطلوب من العرب تسليمهما: حق العودة للاجئين والحرم القدسي، فإن إسقاطهما يتطلب ضغوطاً غير مسبوقة في شدتها وعدواناً غير مسبوق في وحشيته وتواطؤاً أميركياً وأوروبياً غير مسبوق في استخفافه بإنسانية الفلسطينيين. وكان إيهود باراك طالب بتسليم هذين المستحيلين بالحسنى في قمة كامب دافيد 2000، وما يفعله شارون اليوم بمساعدة حلفائه الأميركيين والأوروبيين، هو استكمال المهمة التي بدأها باراك. وهذا يعني أن مجرد صمود الفلسطينيين أمام هذه "النكبة الثالثة" هو إنتصار لهم. وهو إنتصار يعززه، ويوفر له المدد المعنوي، البدء في الحد من الخسائر. إن الممكن المقبل الذي يجرى الترويج له منذ تسلم شارون الحكم هو حصر الفلسطينيين داخل أربعة كانتونات أو بالأدق معسكرات تركيز. وتبذل أوروبا وأميركا جهدهما لتهيئة العرب لهذا الوضع الجديد. غير أن الواهمين العرب سيكتشفون كعادتهم فور قبولهم بهذا الممكن الجديد أن إسرائيل غير قانعة به بذريعة أن الفلسطينيين يقاومونه، وهو الأمر الطبيعي الذي يتوقعه الجميع. ثم تبدأ حملة أخرى من الضغوط وسفك الدماء وتشديد الخناق على المحاصرين، تكون إسرائيل نجحت معها في تهيئة العالم لفكرة الترانسفير كحل وحيد للتخلص من "الإرهاب الفلسطيني" وتحقيق "السلام الدائم". ثم يتصور العرب أن هذا هو الممكن الجديد، وأن إسرائيل حققت من خلال إخلاء الضفة والقطاع أقصى ما كانت تطمح إليه، وأنه آن لهم أن يستريحوا من الصداع الفلسطيني. لكنهم سيكتشفون أن إسرائيل هي أيضاً تريد أن تستريح من الصداع الفلسطيني، أو من البقايا التي خلفتها حرب 1948. سيكتشف العرب أن إسرائيل لن يهدأ لها بال قبل أن تتخلص من "أخطر تهديد ديموغرافي"، على حد تعبير بنيامين نتانياهو، وأنها لا بد من أن تتخلص من "عرب إسرائيل" لتحقيق نقاء الدولة اليهودية. وعندما تصل إسرائيل إلى هذا الحد الأقصى ويرضى به أنصار سياسة الممكن من العرب، يبدأ حلفاء إسرائيل في الولاياتالمتحدة حملة إعلامية تلمح إلى إنتفاء حاجة المسلمين الى المسجد الأقصى بعد أن تم "تطهير" القدسوفلسطين من مسلميها. وتُبذل الجهود الأوروبية والأميركية كالعادة لتكييف العرب على حتمية تشييد هيكل سليمان على أنقاض الأقصى والقبة كشرط لتهدئة خواطر الإسرائيليين وطمأنتهم على أمنهم، وحتى يسود السلام. ولأن الحد الأقصى لا حدود له، ولأن الصهاينة يعتبرون مصر عدوهم الأزلي، ستحصل مصر على جزاء هدوئها وتسليمها بضياع فلسطين، وذلك بإعادة إنتزاع سيناء منها. ما سبق هو سيناريو سقوط المستحيلات وتصفية الممكنات، والذي لا يمكن مواجهته إلا بانتقال العرب من عقلية الممكن إلى عقلية المستحيل. وهذا بدوره يستحيل إلا بإجراء تغييرات شاملة في مؤسسات صنع القرار العربية، وهي تغييرات لن تتحقق إلا في ظل انتخابات حرة تأتي من خلالها الشعوب العربية بمن يملكون القدرة على الحلم والإرادة لتوفير أسباب تحويل الأحلام إلى واقع. * كاتب مصري.