لم تنطوِ نتائج الانتخابات التشريعية الايرانية، على ما يخالف التوقعات التي سبقت العملية الانتخابية وذهبت الى ترجيح فوز التيار المحافظ بغالبية مقاعد مجلس الشورى الجديد. ولكن، على رغم استقرار هذه التوقعات على جادة سليمة الترجيح والتنبؤ، إلا ان كثرة من المراقبين لوقائع الحياة السياسية الإيرانية حملتها ملابسات مرحلة ما قبل توجه الايرانيين الى صناديق الاقتراع، على الوقوع في "كمين" الاستعجال التكهني الذي أفضى الى صرامة القول بانخفاض المشاركة الشعبية في العملية الانتخابية الى ما دون ال20 في المئة، وبالتالي سيطرة المتشددين المحافظين على المجلس الجديد. وانطلاقاً من ذلك، يمكن قراءة نتائج الانتخابات الايرانية الأخيرة، وفقاً للعوامل الآتية: 1 - دلالات نسبة المشاركة الانتخابية المعقولة. 2 - المناخ السياسي والاقتصادي الذي له أن يعيد صوغ السياسات المحلية. 3 - مستقبل التيار الإصلاحي، وتحديداً الأجنحة اليسارية منه. 4 - انعكاسات فوز المحافظين على علاقات ايران الخارجية. بداية التفصيل، تستمد مرتكزاتها من روحية التحدي التي فرضتها ملابسات ما قبل الانتخابات، وهو الأمر الذي أسفر عن تحريك القواعد الناخبة للأطراف المتنافسة، وتحديداً الجانب المحافظ الذي ذهب ناخبوه الى صناديق الاقتراع انطلاقاً من تأدية "الواجب الشرعي". كما ان اعتبار المحافظين ان هذه الانتخابات تندرج في سياق تأكيد الذات، دفعهم الى مزيد من التنظيم والحراك الشعبي، وبهذا المعنى شكلت انتخابات المجلس السابع مشروعاً مصيرياً للمحافظين، إذ من خلاله يتحدد امساكهم بمفاصل السلطة من جهة، وامتحاناً لحجمهم الشعبي من جهة أخرى. والأمر الآخر الذي يمكن التحدث عنه في معرض الدلالات المتعلقة بحجم المشاركة الشعبية، أن المحافظين أكدوا موضوعية امساكهم بكتلة ناخبة صلبة وبالتالي قوة تجييرية لا يمتلكها الاصلاحيون.، فالانتخابات الأخيرة حملت مؤشرات بالغة الأهمية تتعلق بانعدام وحدة الخطاب الإصلاحي وتفرقه الى خطابات ومواقف، أسهمت في مزيد من تصدير الاحباط الى ناخبي الاصلاحيين، ومثل هذه المسألة أكثر ما تجلّت عواملها في الانتخابات البلدية العام الماضي حين شكل الاصلاحيون قوائم متنافسة ومتقاتلة. وجاءت انتخابات المجلس السابع، حيث قاطعت أجنحة من التيار الاصلاحي وشاركت اجنحة أخرى، لترفد الاحباط بعوامل اضافية اجتمعت كلها في وحدة متكاملة ولم تثمر الا نتائج باتت معروفة. والى ما تقدم، يمكن القول ان الفارق بين نسبة المشاركة الشعبية الحالية التي بلغت 51.57 في المئة، ونسبة المشاركة في انتخابات العام 2000، والتي تمحورت حول 67.35 في المئة، تنطوي على دلالة مفادها ان حجم قوة السيطرة الاصلاحية على الناخبين الايرانيين لا يتجاوز ال16 في المئة، وحين يُقال هنا السيطرة الاصلاحية، فالمعنى لا يخرج عن سيطرة الجناح اليساري في التيار الاصلاحي على النسبة المذكورة. على أن كل ما ورد سابقاً قد يكون في جانب، وما يتعلق بالاتجاهات الجديدة لسيطرة المحافظين على المجلس المقبل في جانب آخر، وهذه الاتجاهات قد تفاجئ العديدين ممن هم خارج ايران بفكرها السياسي واتجاهاتها الاصلاحية. ومن هنا فإن نعت "المحافظين الجدد" الذي بدأت أوساط ايرانية تداوله اعلامياً، لا يعني في الواقع سوى ازاحة صفة التشدد عن الجيل المحافظ الجديد في ايران. وتأسيساً على ذلك، من غير المستبعد أن يعمل "المحافظون الجدد" على استكمال المشروع الإصلاحي في صورة مجردة وخالية من السخونة التي اتسمت بها ولاية المجلس التشريعي السادس، وعلى ما يقول أحدهم "لسنا محافظين، بل نحن اصلاحيون حقيقيون". وازاء هذا الأمر، وإذ بات من المرجح أن يسيطر المحافظون على الغالبية المطلقة من المجلس الجديد فوق 146 مقعداً، فإن برنامجاً اصلاحياً على المستويين السياسي والاقتصادي قد تشهده ايران، ومن هذه الزاوية بالضبط يمكن أن تُفهم معاني ذهاب المحافظين الى تقديم شخصيات للمجلس السابع من فئة لتكنوقراط أو من الخبراء في المسائل النفطية والتكنولوجية، وكذلك هي الحال بالنسبة لمرشحي التيار نفسه من الخبراء في العلاقات الدولية. وفي قائمة الاتجاهات السياسية لمجلس الشورى الجديد، تدخل أيضاً جملة عوامل في طليعتها سيطرة التيار الوسطي من الجانبين الاصلاحي والمحافظ على مقاعد البرلمان. وإذا كان مجلس صيانة الدستور استبعد مئات آلاف من التيار الاصلاحي المدرجين في خانة "التطرف" وميلهم الى العمل السياسي الساخن، فإن التيار المحافظ استبعد من صفوفه تلقائياً المتطرفين والمتشددين، ولهذا، يغدو قول الرئيس الايراني السابق هاشمي رفسنجاني ان المجلس الجديد سيكون أكثر اعتدالاً وهدوءاً، مختصراً لصورة هذا المجلس وواقعه في المرحلة المقبلة. وفي صورة عامة، فإن رزمة من الحقائق من المقر ان تفرض نفسها على مجلس الشورى السابع، أولها انخفاض عدد النساء في هذا المجلس، وثانيها ارتفاع عدد مقاعد النواب العرب. وإذا كان المجلس الحالي يضم ستة من النواب العرب، فعلى الأرجح ان يتجاوز عددهم في المجلس السابع التسعة، كما ان "المساكنة" بين المجلس الجديد الذي سيطغى عليه المحافظون وبين الرئيس محمد خاتمي من شأنها أن توجد معايير جديدة للحياة السياسية الايرانية. الا ان مثل هذا القول لا يلغي احتمال أن يطرح المجلس السابع الثقة ببعض وزراء خاتمي، وبخاصة وزير الداخلية موسوي لاري، الذي قادت وزارته اعتراضاً واسعاً على اجراءات مجلس صيانة الدستور، الى حد شاعت معها معلومات عن امكانية تقديم لاري استقالته. فضلاً عن ذلك، فإن ملاحقة بعض النواب ممن انتهت ولايتهم تبقى في اطار الامكانية، خصوصاً ان عدداً منهم "أفرط" في طرح مسائل متعلقة بالأمور الأمنية على بساط التداول الاعلامي. وكل ذلك يطرح في الواقع أسئلة كثيفة المعنى حول مستقبل التيار الاصلاحي. وفي هذا المجال يمكن القول: إن أجنحة من هذا التيار، او شخصيات منه، قد تذهب الى الغلو في ممارسة العمل السياسي المعارض، فيما بعضها الآخر قوى سياسية وشخصيات قد يعيد النظر في خطابه السياسي الماضي. وبصورة يصار فيها الى اعادة تقويم هذا الخطاب على أسس جديدة، قد تقترب من الوسطية، وضمن السياق نفسه، فإن المحافظين سيميلون الى الوسطية أكثر فأكثر في المرحلة المقبلة. وفي ما يتعلق أيضاً بالاصلاحيين، ثمة احتمال لتفكيك ذاتي لقواهم السياسية والحزبية، وربما حدوث انشقاقات تسفر عن اعادة ارتسام لوحة اصلاحية جديدة، كما ان أحزاباً اصلاحية وسطية مثل حزب التضامن أو غيره، قد يستقطب خارجين من التيار الاصلاحي الذي مُني بهزيمة واضحة. وبالتطرق الى مستقبل الوضع الاعلامي ثمة ترجيحات بإعادة النظر في جدية الخطاب الاعلامي الذي شهدته ايران في الأعوام السبعة الماضية، بحيث لا تؤدي اعادة النظر تلك الى العودة الى احادية الخطاب او محافظته مثلما كانت الحال عليه خلال عقد الثمانينات، حين فرضت وقائع الحرب العراقية - الايرانية خصوصية معينة على الخطاب الاعلامي، بل ان تؤدي اعادة النظر الى ضبط الحدية وبما يعني ابعاد الشخصيات الأساسية في النظام عن نطاق التناول، وبالتالي ايجاد إعلام ايراني غير تعبوي وغير تحريضي، في هذا الاتجاه أو ذاك، ولا يدل ذلك سوى الى سيطرة الوسطية الاعلامية على المنعطف الايراني الجديد. والنقطة الأخيرة تتصل بالعلاقات الخارجية لإيران، بعد استتباب أمر المجلس الجديد للمحافظين الجدد. وإذا كانت بداهة القول تقتضي الاشارة أولاً الى ان مجلس الشورى ليس الطرف المقرر للسياسات الخارجية الايرانية، مثل أي برلمان آخر، الا ان مصادقته على التحالفات الدولية والمعاهدات مع الخارج جزء من دوره، ومع هذا، يمكن القول إن سيطرة المناخ المحافظ على ايران سيخلّف بالتأكيد آثاراً على دور هذا المجلس في الفترة المقبلة. وفي هذه الزاوية بالتحديد، من ضرورات القول إن انفتاح ايران على العالم الخارجي لم ترسم معالمه الفترة الممتدة منذ عام 1997 ولغاية هذه اللحظة. صحيح ان الفترة المذكورة شهدت قفزة نوعية في علاقات ايران الخارجية، غير ان نقطة الانطلاق بدأت بعد فوز رفسنجاني في الانتخابات الرئاسية عام 1989، عندما فُتح باب العلاقات الخارجية الايرانية أولاً مع ألمانيا التي أكملت فتح الأبواب الايرانية مع دول الاتحاد الأوروبي عبر ما عُرف ب"الحوار النقدي". وبعد ذلك سلك الايرانيون ما غدا يعرف بتجفيف "منابع التوتر" مع دول الجوار، ومنها العالم العربي. لكن النقلة التي حدثت في علاقات إيران العربية تبلورت بعد حرب الخليج الثانية لتستكمل دورة عجلتها في العامين 1996 و1997، أي عندما كان رفسنجاني رئيساً للجمهورية وعلي أكبر ولايتي وزيراً للخارجية. وهذا ما حدث بالضبط عند المرحلة التي سبقت انعقاد القمة الاسلامية في طهران في أواخر 1997، إذ ان ولايتي قبل الانتخابات الرئاسية في أيار/ مايو من العام نفسه، قام بجولة واسعة على الأقطار العربية أكملت التحضير للقمة وحضور العديد من الزعماء العرب قمة طهران، من بينهم ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز. وعلى هذا الأساس، أغلب الظن ان سياسة ايران الخارجية ستستكمل قنوات الانفتاح، مع الاشارة الى ان صناعة هذه السياسة لا تخرج عن مجموعة من مؤسسات السلطة في ايران، من بينها موقعية المرشد ومجلس الأمن القومي ومجلس لتشخيص مصلحة النظام ورئاسة الجمهورية. أما العلاقة مع الولاياتالمتحدة فلها حديث آخر ومختلف. * كاتب لبناني.