وبعد خمسين عاماً بالتمام والكمال، تحقق لعمر الشريف ذلك الحلم الذي لا شك داعب خياله يوم وقف للمرة الأولى في حياته، أمام كاميرا سينمائية، وكانت الكاميرا ليوسف شاهين،. وكان الحلم جائزة كبيرة ينالها، لأنه ممثل متميز، لا لأنه نجم ذو شعبية، أو لأنه فتى وسيم. فإذا كانت غيبة الجوائز الكبرى عن السينما المصرية، جعلته دائماً غير قادر على الحصول على جائزة يشعر معها ان جهوده السينمائية مثمرة، وإذا كان أهل "الأوسكار" ضنوا عليه بجائزتهم لأفضل ممثل، حتى حين رُشح فيلم "دكتور جيفاغو" الذي لعب دور البطولة فيه لجوائز عدة، أو بجوائز أقل منها قيمة، فإن الفرنسيين لم يفوتوا أن يحيوا فيه الممثل، أكثر من النجم، ورجل التسامح أكثر من الفنان. حدث هذا مساء أول من أمس، حين اعتلى نجمنا العربي الكبير الخشبة لينال وسط تصفيق استثنائي "سيزار" أفضل ممثل عن دوره في فيلم "ابراهيم وأزهار القرآن" لفرانسوا دوبيرون، وهو الفيلم الذي كان رشح الى افضل فيلم أجنبي لأوسكار هذا العام، لكن الحظ لم يحالفه واستبعد منذ تصفيات مبكرة. المهم أن "سيزار" الفرنسيين تأتي الآن. وهي أحب على قلب عمر الشريف من "أوسكار" الأميركيين، خصوصاً أنها تلي بشهور قليلة ذلك التكريم الكبير الذي خُصَّ به خلال الدورة الأخيرة لمهرجان "البندقية" الايطالي. ومن هنا لم يكن غريباً أن يكون أول تعليق للوسيم الدائم الشباب البالغ اليوم الحادية والسبعين من العمر، حين أُعلن الفوز هو قوله: "أعتقد بأنني طوال حياتي أحببت بشغف فرنسا والفرنسيين. وأعتقد بأن فرنسا والفرنسيين يبادلونني هذا الحب، من خلال تكريمي على هذا النحو". والحقيقة ان من شاهد أداء عمر في "ابراهيم وأزهار القرآن"، كان توقع له فوزاً ما. إذ هنا يستعيد سيرة يحدث له أن ينساها بين الحين والآخر: سيرته كممثل من طراز كبير، تربى على يدي يوسف شاهين ومثّل في بعض أقوى الأفلام المصرية في الستينات. ثم، حين قيّض له أن يدخل درب العالمية، دخلها بكل تواضع في دور مميز في "لورانس العرب" لديفيد لين... وكان من حسن الأداء في هذا الفيلم الذي يكاد يصبح اسطورياً، الى درجة أن دافيد لين وجد من الطبيعي أن يعهد اليه بدور الدكتور المسالم المعادي للثورة البولشفية في "دكتور جيفاغو". وقد يكون هذا الدور أشهر أدوار عمر الشريف على الاطلاق، لكنه في الحقيقة لم يكن أقوى أدواره... ولم يتوان بعضهم عن القول ان اداءه في الفيلم كان أسوأ كارثة حلت به مجلة "امباير" البريطانية، قبل شهور، والأمر نفسه يمكن قوله عن عدد كبير من أدوار الشريف، الذي كان يقسم وقته بين السينما والكازينوات، في شكل جعله يضيع هنا، كما يضيع هناك. غير انه، في كل مرة كان يحلو له فيها أن يعود الى درب الابداع، كان يجد الأمر سهلاً عليه، ومفرحاً لجمهوره المنتشر في طول العالم وعرضه. من الصعب هنا استعادة أدوار عمر الشريف، وتفاصيل حياته المتقلبة، التي وزعها بين ثلاثة بلدان أميركا، مصر، وفرنسا، ولكن يمكن التوقف عند الحكمة والقوة وضروب التسامح التي وسمت شخصيته في دور ابراهيم في الفيلم الجديد، وجعلت منه أباً روحياً، لفتى يهودي يعاني ذيول علاقة سيئة ومعقدة بأبيه... ومن خلال هذه الأبوة بالتبني يقود ابراهيم المسلم، صديقه اليهودي الفتى الى دروب تسامح وحكمة تكاد تغيب تماماً عن عالم اليوم... واليوم لا تغيب، طبعاً، دلالاتها في الفيلم عن أعين المتفرجين. ومهما يكن، فإن عمر الشريف رأى أن دور ابراهيم يكاد يكون معبراً عن شخصيته تماماً، إذ انه دائماً ما دعا الى السلام والحكمة والتفاهم بين البشر... بقي ان نذكر ان عمر الشريف لم يكن الفائز الوحيد بجوائز السيزار، إذ الى جانبه كان الكندي ديني آركان أفضل فيلم وأفضل مخرج عن فيلمه المميز "الغزوات الهمجية"، وكلينت ايستوود أفضل فيلم أجنبي عن "ميستك ريفر" وسيلفي تيستو عن "ليلي الصغيرة" الذي اقتبسه كلود ميلر عن تشيكوف و"وداعاً لينين" لولفغانغ بيكر، الفيلم الذي بات أشهر من أن يعرَّف وفاز بجائزة أفضل فيلم أوروبي.