في أعقاب اجتياح العراق للكويت عام 1990، شنت قوات جورج بوش الأب حرب "عاصفة الصحراء" التي انتهت بإخراج العراقيين من الكويت وتمركز قرابة نصف مليون جندي أميركي في منطقة الخليج العربي. آنذاك، نشر عدد من المثقفين العرب دراسات مهمة للتنديد بغزو العراق للكويت لأنه تمجاءبإيحاء أميركي. وعلى رغم عودة الشرعية الى الكويت دولة مستقلة كبقية الدول العربية، فإنه جعل من الخليج بحيرة مغلقة للنفوذ الأميركي. علماً أن العملية العسكرية الأميركية تمت تحت راية الأممالمتحدة، وبمشاركة دول عربية. في عام 2003 احتلت قوات التحالف الأميركي - البريطاني العراق، من دون موافقة الأممالمتحدة. وقد نددت غالبية الدول، الكبرى منها والصغرى، داخل الأممالمتحدة وخارجها، بهذا الاحتلال المخالف لكل الشرائع والقوانين الدولية. وحين كانت إدارة بوش تحضر لحرب "استباقية" على العراق تحت ستار كاذب من وجود أسلحة دمار شامل فيه لم تؤكده فرق التفتيش التي أرسلتها الأممالمتحدة للبحث عنها، كانت القوى الديموقراطية في العالم تنظم تظاهرات صاخبة ضمت قرابة خمسة عشر مليون إنسان جابوا شوارع مئات المدن في العالم للتنديد بتلك الحرب قبل وقوعها. كما أن نسبة كبيرة من الرأي العام في داخل البلدان التي شاركت في الاحتلال أو ساندته بقوات عسكرية، كإسبانيا واليابان وإيطاليا، عبرت عن رفضها القاطع لهذا المنحى الخطر في العلاقات الدولية والذي يهدد بإنهاء دور الأممالمتحدة، والعودة إلى سباق التسلح، وينذر بحروب إقليمية يمكن أن تقود إلى حرب عالمية مدمرة. إعتبر بعض الباحثين بحق أن إصرار إدارة بوش على الحرب مؤشر واضح الى وجود مخطط لديها أعد بعناية فائقة منذ سنوات طويلة. فقد أفاد صقور الإدارة الأميركية من أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، والتي ما زالت مجهولة الفاعل الحقيقي على رغم إلصاقها ببن لادن وجماعة القاعدة، لشن حرب عسكرية وسياسية وعنصرية وثقافية واقتصادية على العرب والمسلمين. فانقلبت صورة أميركا رأساً على عقب في نظر الغالبية الساحقة من المثقفين العرب، ومنهم من تعلم في الجامعات الأميركية، وأمضى سنوات طويلة فيها، وتغنى بنظامها الديموقراطي، وأدمن زيارتها مرات عدة في العام الواحد. وسبب هذا التغيير أن الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 يندرج في إطار عودة الاستعمار المباشر إلى المنطقة العربية في شكل علني بعد أن كان مجرد توقعات وهواجس عام 1991. ويعتبر كتاب الفضل شلق الذي صدر عام 2003 في عنوان "عودة الاستعمار والحملة الأميركية على العرب"، من أهم ما نشر حول هذا الموضوع. فقد تعلم المؤلف في جامعات أميركا، وأمضى فيها سنوات طويلة، وزارها مرات عدة، وأعجب سابقاً بنظامها الديموقراطي، وبالحرية التي يتمتع بها المواطن الأميركي. لكن الاحتلال الأميركي للعراق، من خارج الشرعية الدولية، وفي شكل مخالف لكل الأنظمة والقوانين الدولية، صدمه فعلاً، فنشر عدداً من المقالات السجالية، وأجرى حواراً ثقافياً معمقاً مع المقولات التي تضمنها أبرز الكتب الإيديولوجية التي عبرت بوضوح قاطع عن رأي صقور الإدارة الأميركية، ومثقفي أميركا، من المؤيدين لحرب بوش الاستباقية على العراق والمعارضين لها على حد سواء. وكانت المحصلة العامة لذلك الحوار الثقافي هذا الكتاب الشيق والمفيد جداً للباحثين العرب بعد أن نجح المؤلف في رصد عدد كبير من مقولات الحرب الاستباقية، من المصادر الأميركية مباشرة وليس عبر الترجمة والاقتباس الصحافي. حدد الفضل شلق بنفسه أبرز هواجسه أو مقولاته النظرية في هذا الكتاب حين قال: "لقد تغيرت أميركا باتجاه غير عقلاني، فصار للأميركيين منطقهم وللعالم منطقه، وإسرائيل تدخل في المجال الأميركي. وأصبح العرب هدفاً لهذا العقل اللاعقلاني. ذلك هو الهاجس الذي دفعني إلى تأليف هذا الكتاب". وقد تضمن خمسة فصول حملت العناوين الآتية: "حريتهم وحريتنا، العدوان على العراق، إمبراطورية للإيجار، الحرب الثقافية قبل 11 أيلول وبعده، النظام العالمي الجديد: تحولات الإمبراطورية. واضاف إليه ملحقاً بعنوان: رسالة من أميركا: من أجل ماذا نحارب؟ مع رد على تلك الرسالة التي عبرت عن وجهة نظر مثقفين أميركيين بعد 11 أيلول 2001، وتفنيد مقولاتها الثقافية من وجهة نظر أكاديمي عربي متعمق بقضايا المجتمع الأميركي المعاصر. فمقولة "عودة الاستعمار" في كتاب الفضل شلق تتويج لجهد نظري تم جمعها من خلال المقولات التي نشرها حول الموضوع، ومن خلال نقاش علمي رصين لأبرز مقولات العولمة الأميركية كما تجلت في تصريحات صقور الإدارة الأميركية وخطبهم شبه اليومية في وسائل الإعلام. ورصد الباحث أيضاً الانتقادات العلمية الموثقة التي وجهها مثقفون أميركيون من ذوي الشهرة العالمية الى صقور تلك الإدارة، وكانوا من أشد المعارضين لمقولة بناء الإمبراطورية الأميركية بالقوة العسكرية. عودة الاستعمار إذاً إلى بلاد العرب مسار جديد وخطر في تاريخ البشرية لأنه جزء بسيط من مخطط مبرمج أعده المحافظون الجدد، وبالتنسيق الكامل مع الليكوديين في الدولة الصهيونية، للسيطرة على العالم انطلاقاً من السيطرة على مصادر الطاقة، وبناء قواعد عسكرية ثابتة للنفوذ الأميركي، واستخدام المنظمات الدولية لمصلحة العولمة الأميركية، وزيادة موازنة الدفاع الأميركية سنوياً بحيث تزيد على نصف موازنات دول العالم مجتمعة. وكشف الفضل شلق بدقة المقولات الثقافية التي نشرها المحافظون الجدد والتي تقوم على مأسسة الحرب والخداع، وتحويل أميركا إلى مقاطعة إسرائيلية، وفند مزاعمهم حول الحرب العادلة، وتخليهم عن القيم الأميركية، والتركيز على مفاهيم دينية غيبية، وتمجيد العنف الذي يقود حتماً إلى إنحطاط الإمبراطورية وسقوطها على غرار جميع الإمبراطوريات السابقة. كما حمل بعنف أشد على النظم الاستبدادية العربية التي تخضع طوعاً لمقولات الحرب والخداع التي تطلقها إدارة بوش. وبعد أن سخر من مقولة كلاوفيتز من أن الحرب استمرار للسياسة بوسائل اخرى، تبنى مقولة روبرت كيغان في كتابه "تاريخ فن الحرب" حيث رأى "أن الحرب هي، على الأرجح، انقطاع للسياسة". "فالحرب لا تحل تناقضات أو إشكاليات سياسية، بل تزيد المشكلات والشروخ السياسية". وانتهى إلى القول: "ليست "الحرب العادلة" إلا حجة لتبرير الحرب بجميع أشكالها. ولا فارق بين جهاد يدعيه متطرفو الإسلام، وصليبية، وحرب عادلة، إلا أن الأخيرة هي التي تحمل الإمكانات الأكثر تدميراً وتهديداً لمصير البشرية والكرة الأرضية، ذلك أنها تبرر الحرب لمن في يده القدرة على تدمير الأرض مرات عدة. ولا لزوم لتبرير الحرب حين يمكن الوصول إلى نتائج أفضل بالحوار والسياسة". كتاب متميز بفهمه العميق لمتغيرات عصر العولمة من وجهة نظر مثقف عربي مؤمن بدور العرب في المشاركة بالتاريخ العالمي كبقية الشعوب الحرة التي ترفض عودة الاستعمار بكل أشكاله، وستقاومه، كما فعلت في السابق، دفاعاً عن حريتها وتراثها الإنساني. الفضل شلق: "عودة الاستعمار والحملة الأميركية على العرب"، دار النفائس، بيروت - 2003.