الكتاب الذي اصدرته وزارتا الخارجية والثقافة اليونانيتان في مناسبة زيارة الرئيس اللبناني اميل لحود الى اليونان العام الماضي يتجاوز نوعية الكتب التذكارية التي تصدر في مثل هذه المناسبات، ليحتل مكانة مهمة على المستوى التاريخي - الآثاري كونه يسجل جوانب من العلاقات الاغريقية - الفينيقية في الازمنة الغابرة، ونماذج من مظاهرها في منطقة شرق البحر الابيض المتوسط في القرون العشرة قبل الميلاد وصولاً الى الغزو الروماني الذي غيّر وجه العالم القديم في القرون الميلادية الاولى. صاحب فكرة اصدار كتاب "الإغريق والفينيقيون في العصور القديمة" هو سفير لبنان في اليونان وليم فريد حبيب الذي رأى فيه تعزيزاً للعلاقات الوثيقة بين البلدين، خصوصاً ان الرئيس اليوناني كان يخطط لرد الزيارة للرئيس اللبناني... وهذا ما حدث بالفعل في كانون الثاني يناير الماضي. اما مؤلفة الكتاب بالانكليزية فهي نينا جيدجيان التي سبق لها ان اصدرت مجموعة من الكتب التاريخية والآثارية عن المدن الفينيقية في العصور القديمة. كان الإغريق والفينيقيون من رواد البحر، وتتحدث الاساطير عن علاقات متفاعلة على طول الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد على الاقل. وعندما خطف زيوس المتنكر بزي ثور الأميرة "اوروبا" الفينيقية وهرب بها الى الجزر اليونانية، لحق به شقيقها قدموس مع عدد من رجاله في محاولة يائسة لاستعادتها... فكانت النتيجة ان الاميرة الفينيقية اعطت اسمها لقارة كاملة، وان قدموس استقر في احدى المدن الاغريقية وراح يعلّم الناس هناك الحروف الابجدية المحمولة من الساحل الفينيقي. يرصد الكتاب العلاقات الاغريقية - الفينيقية في مراحلها المختلفة، مستعيناً بمجموعة من الصور الفوتوغرافية الرائعة لآثار ونقود وتماثيل ولوحات فسيفسائية تغطي تلك المراحل التي تراوحت بين التعامل التجاري في العصور الاولى، مروراً بحملات الاسكندر المقدوني، وانتهاء بالعصر الهليني الذي خيم على شرقي المتوسط وصولاً الى مصر الفرعونية حيث نشأت ثقافة متوسطية استقت عناصرها من الحضارات المختلفة آنذاك، اغريقية وفينيقية وفرعونية. ومع ان الفينيقيين لم يتركوا الكثير من الآثار الكتابية لتلك العصور، الا ان المؤرخين الاغريق امثال هيرودوتس والشعراء الكبار، امثال هوميروس، ضمنوا اعمالهم التاريخية والملحمية اشارات قيّمة توضح عمق العلاقات الاغريقية الفينيقية على مستويات متعددة. ولعل ابرز ما يؤكد طبيعة التفاعل، انتشار العبادات المتماثلة عند الطرفين على رغم اختلاف الاسماء. فالصفات هي ذاتها، وطرق العبادة واحدة، والاساطير المرتبطة بها مستوحاة من اصول تعود الى جذر واحد. وعندما تحول حوض البحر الابيض المتوسط الى مجال للتفاعل الثقافي في زمن الاسكندر وخلفائه السلوقيين، شارك الفينيقيون بشكل اساسي، والمصريون في عصر البطالمة، في اغناء الثقافة الهلينية التي نشأت من التمازج الحضاري الوثيق. وسرعان ما نشأ فن جديد في انحاء شرق المتوسط تمثل في المنحوتات واعمال الفسيفساء والعمارة، خصوصاً المعابد التي اقامها الاغريق في فينيقيا. وتقدم المؤلفة جيدجيان عرضاً تاريخياً تفصيلياً، مدعماً بالصور التوضيحية، لأهم المكتشفات الآثارية في لبنان، والتي تظهر التفاعل الاغريقي مع العناصر الفينيقية المحلية حيث نشأت النزعة الهلينية التي استمرت حتى مجيء الرومان واحتلالهم المنطقة كلها. وبعض هذه الآثار اكتشف حديثاً في حفريات وسط بيروت، وهو موجود في المتحف الوطني اللبناني حالياً. لكن ابرز النواويس التي اكتشفت في مطلع القرن الماضي، واثارت ضجة كبرى آنذاك لأهميتها التاريخية والجمالية، موجودة الآن في المتاحف التركية نظراً الى ان لبنان كان خاضعاً يومها 1912 للحكم العثماني واقدم الوالي التركي على نقلها من صيدا حيث اكتشفت الى اسطنبول... ولا تزال هناك. هذا الكتاب الأنيق ليس الكلمة الفصل في تأريخ العلاقة بين الاغريق والفينيقيين في العصور القديمة، ذلك ان هناك جانباً آخر تمثل في تفاعل حدث في غرب البحر المتوسط بين المستوطنين الاغريق والفينيقيين في اسبانيا وشمال افريقيا واستمر قائماً حتى زمن الحروب الرومانية - القرطاجية. فالهدف من هذا الاصدار هو اعطاء الخطوط العامة العريضة لطبيعة تلك العلاقة، وابراز ملامحها الحضارية من خلال المكتشفات الآثارية التي لم تتوقف حتى الآن... وكم يكون رائعاً لو يصدر كتاب مماثل آخر يسجل تلك العلاقات من خلال الآثار الموجودة في اليونان على غرار ما فعل الباحث مارتن برنال في كتابه "اثينا السوداء" الذي حاول فيه اظهار عمق التأثير الفينيقي - الفرعوني في الحضارة الاغريقية إبان عصرها الذهبي.