الشخصيات 1 الشاب: في الثلاثين، طويل بشكل ملفت للنظر. وسيم. أنيق. يرتدي معطفاً أسود يصل الى ما تحت الركبة. 2 السيدة: تجاوزت الخمسين. ممتلئة الجسم ولا تزال تحتفظ بآثار جمال قديم. معتنية بملبسها. موقف حافلات يقع على مفترق طريقين، أحدهما رئيسي والآخر فرعي. وراء الموقف سياج عال ترتفع خلفه أشجار وارفة خضراء يمكن تمييز نخلتين بينها. الوقت ما بعد الظهر والشمس ساطعة. كان الشاب جالساً عند رفع الستار، ثم قام بنفاد صبر وراح يتمشى رواحاً ومجيئاً وهو يتطلع الى كافة الاتجاهات. لحظات ثم يعود للجلوس. تقبل السيدة من الشارع الفرعي. تقف مترددة. تنظر الى الرقم والاسم المدونين على قطعة خشبية معلقة على جانب من الموقف. تسير بخطى بطيئة مقتربة من الموقف. السيدة : مساء الخير. الشاب : يسعد مساك. السيدة : أرجو المعذرة. لا أستطيع قراءة ما هو مكتوب على تلك القطعة الخشبية المعلقة هناك. أهذا هو الموقف... الشاب - يقاطعها - الموقف رقم "17"، موقف الطرق التي لا تلتقي. السيدة : آه... شكراً. ما ألطفك! الشاب يكتفي بهزة من رأسه ثم يقوم ويقف متلفتاً من جهة لأخرى. السيدة تجلس على جانب المقعد وتراقب الشاب بصمت وهو في وقفته يتطلع الى جهات الشارع السيدة : لماذا لا تنتظر بهدوء... بهدوء يا سيدي؟ الشاب - يلتفت اليها. لحظة - كيف يمكن ذلك؟ السيدة : بأن تفكر ان الحافلة لن تتأخر. الشاب : من قال إنني أنتظر أية حافلة لعينة؟ السيدة : آه... هذا صحيح. مع ذلك يا سيدي، لا بد أن تأتي. امنحها بعض الوقت. الشاب : يستدير اليها، قلقاً : ماذا تقصدين؟ السيدة : ألستَ تنتظر أحداً... سيدة أو حافلة؟ دعها تأخذ وقتها إذن. الشاب : يبعد نظره عنها. بعصبية مفاجئة : كم من الوقت تحتاج لتأتي أخيراً السيدة : هل يمكنني أن أسألك يا سيدي... من أنت؟ الشاب يرتد بحركة عنيفة ولا يجيب أرجو المعذرة، لدي شك بأنني أعرفك. هل تتفضل بفتح أزرار معطفك رجاء. الشاب : ما هذا؟ بعض الاحترام، سيدتي. لسنا في وقت أو مكان ملائمين لمثل هذا المزاح. ما أنحس هذا الوقت الذي لا يمر. السيدة : لم أرد المزاح، أردت أن أشرح لك بعض الأمور، جئت لهذا الغرض. الشاب : لكنني لا أعرفك يا سيدتي ولست في مزاج يسمح لي بالتعرف على أحد، كائناً ما كان. السيدة : كما تشاء، كما تشاء. هنيهة سكون غير أنها لن تأتي يا صديقي. أعلم أنها لن تأتي هذه المرة. الشاب : يقف متجهاً اليها : نعم؟! أي هذر هذا! لماذا تقحمين نفسك في هذا الموضوع؟ أنا لا أعرفك ولا أظنك تدعين معرفتي. لماذا تقحمين نفسك في موضوع شخصي جداً؟ السيدة : لأن... لأن الأمور انقلبت بنا يا سيدي. الشاب : بأي شكل؟ بأي معنى... إذا سمحت؟ السيدة : اعذرني. هذا هو الموضوع الذي رجوتك من أجله أن تفتح أزرار معطفك الثقيل هذا. الشاب : أوه يا ربي! مجانين في غير الوقت المناسب. يخطو بضع خطوات بعصبية، ثم يقف أمام السيدة. انه منفعل. أرجوكِ... من أنت يا سيدتي؟ وما هذا الكلام منك؟ أأعرفك حقاً... كما يخيل إليَّ؟ السيدة : الآن، لا يمكنك أن تعرفني، ولكن تفضل بفتح أزرار معطفك لأريك ما أقصد. الشاب - يقف متردداً لحظات. ينظر اليها والى أزرار المعطف - ما ضرّ لو... يفتح أزرار معطفه فيبدو في بدلة مخططة يعود طرازها الى سنوات طويلة ماضية السيدة : أترى يا سيدي؟ ما كان أجمل هذه الملابس في وقتها! أترى الآن إذن... انك تعيش في وقتك ذاك، وقت تلك الملابس، وكنتَ سعيداً في علاقتك بها... ألم تكن؟ كانت علاقة جدية كما اعتدنا أن نقول، وكنتَ تريد أن تعرض عليها الزواج وأن ترتبط بها الى الأبد، حين توافيك بموعدكما هذا... لكنها لم تأت! الشاب : ماذا حدث لك يا سيدتي؟ ولِمَ هذا النوع المؤسي من الكلام؟ لماذا تحكمين عليّ بمثل هذه القسوة وأنتِ لا تعلمين شيئاً؟ السيدة : بلى يا سيدي. أنا انسانة حزينة لأنني أعلم كيف جرت الأمور ولماذا كسرت حياتك تلك الفتاة واختارت ألا توافيك في موعدك المصيري هذا. الشاب : بانفعال : أتعرفين يا سيدتي... أي نوع من أنواع المصائب أنتِ؟ أتقولين لي من أرسلك إليَّ بحق السماء؟ السيدة : لستُ متأكدة تماماً، لعله الندم. الشاب : الندم؟ الندم!! أي خيال هذا! وما علاقتي وعلاقة كل شيء في العالم بالندم.. بندمك أنتِ؟! السيدة : ألا تظن، وأنت في زمنك المقلوب هذا، بأن من الممكن ان تكون لي علاقة بتلك التي أخطأت في الاختيار، أخطأت منذ ثلاثين سنة؟ الشاب : يضع يده حول حنكه محدقاً بشزر الى السيدة : ماذا تقصدين؟ عمن تتحدثين؟ السيدة : عن شخص تعرفه... عن شخص تنتظره. ألستَ في حالة انتظار... انتظارها؟ الشاب : يتماسك بصعوبة ثم يتقدم بهدوء مفتعل ليجلس قرب السيدة مزرراً معطفه : أستميحك عذراً أيتها السيدة المحترمة، فأنتِ على وشك أن تخرجيني عن طوري. ببساطة، إذا سمحتِ، من أنتِ؟ هل لي بكِ معرفة سابقة؟ السيدة : أنا.. أنا لستُ تماماً. تلك التي تنتظرها... أنتظرتها. لست هي بالتحديد. هنالك فارق شاسع بيننا، هوة سحيقة من نوع ما. الشاب : ماذا تعنين... أرجوك؟ أجيبيني بوضوح، فأنا متوتر الأعصاب بعض الشيء. السيدة : أرى ذلك يا صديقي، لكن شرح قضايا الدنيا والزمان حين تلتبس وتختل، يصبح أمراً مثيراً للبلبلة. الشاب : يشير بذراعيه دلالة الحيرة، من دون كلام : السيدة : حاول أن تفهمني، فأنا مثلك مرتبكة. لقد وددتُ أن أقول لك... لا تحزن أكثر مما يجب يا سيدي. إحزن بانتظام، بشكل محسوب، اذا كان لا بد من الحزن. لا تدع الحياة تتحطم بين يديك. هي، تلك العزيزة، لن تأتي... ثم ماذا؟ الشاب - ببعض الاضطراب - هذا... هذا ما تقولينه أنتِ، ما يمكنك أن تقوليه. أما أنا، فلي شأن آخر. السيدة : أعرف ذلك، أعرفه جيداً، ولهذا... ولهذا جئتُ إليك. الشاب : جئتِ؟ إليَّ؟ السيدة : المعذرة يا صديقي، فأنت لا تزال في حالة انتظار مضى عليها ثلاثون عاماً! الشاب - إشارة سخرية - أنا إذن متأخر كثيراً!؟ السيدة : كلا، بل متقدم جداً. الشاب : يا للبلبلة! متقدم على أي شيء؟ السيدة : على لا شيء، فنحن لا نسير مع هذا الزمان، بل نحن نفنى فيه فحسب. الشاب - بسخرية - نحن إذن، أنتِ وأنا، فانيان؟ السيدة : أنت فقط. الشاب : عجباً! أنا فقط، ولماذا؟ السيدة : كم بودي ألا أشرح شيئاً، فأنا لا أعرف حقيقة ما آلت اليه الأمور ولا كيف. غير أنك كنتَ هكذا منذ ثلاثين سنة، كنتَ تنتظر.... كنتَ انتظرتَ مجيئها... وهي لم تأتِ، وكل شيء قضى عليه الزمان. الشاب : كلا. أبداً. لا يحق لك أن تتفوهي بمثل هذه الأقوال. أبداً. ما أدراك... كيف تعرفين انها... انها... يخفي وجهه بين راحتيه فجأة من أنتِ؟ من أنتِ؟ السيدة : ولكنك غريب الأطوار بعض الشيء يا سيدي. الشاب : يرفع رأسه. بسرعة : من أنتِ؟ أتوسل اليك. من أنتِ؟ السيدة : ولكنني أخبرتك باشارات كثيرة... إنني أنا هي، تلك التي اختارت غيرك ولم تأتِ. الشاب : اختارت؟! اختارت غيري؟ السيدة : بتوجع شديد، إذا أمكنني القول. كان اختياراً من النوع القاتل... القاتل السريع. وأنت إذ تختار في هذا العالم الهش، فإنك، على الأغلب، إنسان مقضي عليه، فلا عودة لك مطلقاً، لا وقتية ولا أبدية. الشاب : اختارت اذن؟ أتستطيع ذلك؟ السيدة : خيل إليه. خيل إليها. الشاب : ولم تأتِ؟ لن تأتي؟ هكذا... لن تأتي وهي كل ما تبقى لي؟ السيدة : لا تبالغ ولا تخطئ في تقويم الأمور. الشاب : أخطئ بأي شيء يا سيدتي؟ ألم أكن مخلصاً إخلاصاً مطلقاً؟ ألم أتحمل منها ما يكفي من المراوغات والأعذار والاتهامات الفارغة؟ ثم يعجبها. مزاجياً، أن تختار طريقاً آخر... شخصاً آخر. السيدة : كان اختيارها ذاك، وجهاً آخر للتعاسة. الشاب : يقف فجأة، متغير السحنة. بلهجة حادة : ولكنك مجنونة بالتأكيد، وأنتِ تهذين مثل كل المجانين، وأنا، للأسف، لا أدري كيف ولماذا ضيعتُ وقتي أستمع الى هذيانك. من أنتِ؟ كيف يمكنك أن تتكلمي هكذا؟ السيدة - تقف بهدوء - أوه، يا ربي، كم أنا حزينة! لقد كنتُ ظلاً كثيفاً خيّم عليك لحظات يا سيدي هي من السحر والاختلال الزماني. لا تهتم بي. لقد جئتُ تحملني ظنون بأنني قد أستطيع إنقاذ... إنقاذ ما لا يمكن انقاذه. وهكذا كان. الشاب : انصرفي إذن وابعدي عن نظري كل هذا التجهم. بعدك، لا بد أن يشع كل شيء. السيدة - تتحرك منصرفة - كم أتمنى ذلك! ولكن... تقف مترددة اسمح لي أن أسألك سؤالاً أخيراً. لا تقاطعني رجاءً. أتراك نسيتَ يا سيدي ما قالته لك حين اتفقتما على هذا الموعد؟ الشاب - أتذكر كل شيء. كل نظرة... كل لمسة، وأنا سعيد على رغم وجودك المظلم أمامي. السيدة : شيء محزن حقاً. أنت لم تفهم منها إذن يا سيدي. انها لن تأتي الى هذا الموعد؟ الشاب : كلا، لم يخطر... ولن يخطر لي ذلك. إنها أكثر إخلاصاً مني. السيدة : كانت مخلصة في الحقيقة، ولكنها لم تكن واثقة من نفسها. كانت مخلصة حين قالت لك: انتظرني عند شجرة الدردار. ألم تفهم؟ الشاب : كلا. ما هذا اللغز الجديد منك؟ السيدة : مني؟! ولكن، ألم تقل لك شيئاً من هذا النوع؟ الشاب : ربما. لا أتذكر جيداً. لا أدري. السيدة : آه. كانت تلك اشارة منها الى الموعد الذي سيُخلف، وأنت لم تفهم، لعلك لم تكن تعلم بأن هنالك مثل هذا الاصطلاح في لغة أجنبية. الشاب - ببطء - هكذا يكون الإخلاص إذن؟! تبتعد السيدة بصمت وتنعطف سائرة على جهة من الطريق الفرعي. الشاب - متلفتاً حواليه - اللعنة. أين يمكنني أن أجد شجرة دردار في هذه النواحي الموحشة؟ دمشق - كانون الثاني 2004