لوحق اريك هازان مدير دار نشر"لا فابريك"امام القضاء من جانب وليام غولدناديل رئيس جمعية"محامون بلا حدود"لترجمته ونشره كتاب نورمان فينكلشتاين"صناعة المحرقة". هذا المؤلف، الذي شكّل محوراً لجدل شديد الحدة، يحمل تحديداً على تسخير المحرقة من جانب عدد من الاشخاص والمجموعات اليهودية الذين تمادوا في استغلال ألم شعبهم لأهداف مادية او سياسية. في مواجهة تهمة"التحريض على الحقد العنصري والذم العنصري"دافع اريك هازان، وهو جراح سابق في مستشفيات باريس، بطريقة مثيرة للاعجاب خلال المحاكمة التي حصلت يوم الجمعة 3 كانون الاول ديسمبر امام الغرفة 17 للمحكمة الجزائية الباريسية. ورداً على سؤال عما اذا كان مدركاً للاستخدام الكارثي للكتاب الملتهب من جانب منكري المحرقة والمشكّكين بها والمعادين للسامية على انواعهم، طالب القضاة بأن يتذكروا كم من المرّات في التاريخ، حرّفت مؤلفات ضرورية لإحلال الحقيقة عن اهدافها واستخدمت بشكل مجتزأ او مبتور لأغراض مقيتة. هذا لا يعني ان فينكلشتاين مؤلف شجاع بلا شك، لكنه هزيل ويشتغل بالتعميم يمكن ان يقارن بكبار المفكرين كالفيلسوفة اليهودية الالمانية حنّة اريندت مثلاً، وقد وصفت باللاسامية غداة صدور كتابها"ايخمان في القدس"سنة 1961 لكن مبدأ الرقابة والتخويف هو نفسه في كلتا الحالتين. "هل ينبغي مثلاً منع مؤلف لغات نيتشه، اضاف هازان وهي مؤلفات لا تنطوي على اي اثر للاسامية، وانما ايضاً تحذّر منه بحجة ان هناك من حرّفه عن معناه من جانب النازيين؟". وإذ رغبت شخصياً في ان اشهد على هذه المحاكمة فليس من اجل اعادة اطلاق كتاب نورمان فينكلشتاين وللمناسبة لا بد من التذكير بأن المؤلف هو حفيد ناجين من غيتو وارسو ومعسكرات الاعتقال وانما لرغبتي في أن اكون صدى للشهود الذين توالوا أمام المحكمة ليقدموا دعمهم لإريك هازان. فالجودة الفائقة لمداخلاتهم تستحق اهتمامنا لاكثر من سبب. وافكر خصوصاً باهتمام كل اولئك، في العالم العربي، الذين يستمرون في تجاهل او يفضلون الا يعرفوا كم من المثقفين اليهود او الاسرائيليين يكافحون يومياً ضد غياب العقاب ووحشية سياسة الأبارتيد الاسرائيلية. فالشهود الخمسة في المحاكمة ليسوا حالات معزولة في اطار المشهد الثقافي اليهودي بل العكس. واذا كان لا بد لهذه المحاكمة العبثية من معنى فإن معناها تحديداً هو التالي: تذكير كل منا بأن لا أرييل شارون ولا ايلي فيزيل يملكان حق احتكار الهوية اليهودية. وهناك بالطبع عدد من المثقفين العرب الذين يعملون على التذكير بهذه الحقيقة وتعميمها، لكننا نأمل بأن يكونوا اكبر عدداً ونأمل بأن تعمل الصحافة ودور النشر العربية بأكملها على نفض عاداتها القديمة واتخاذ قرار بايجاد تآلف بين قرائهم وعدد من المؤلفين اليهود، اسرائيليين ام غير اسرائيليين، الذين سيعترف التاريخ يوماً بأنهم الذين انقذوا شرف جماعتهم، مثلهم مثل المقاومين في الحرب العالمية الثانية الذين شكلوا كرامة فرنسا. ولكن لنعد الى الشهود الخمسة في المحاكمة. فمن هم؟ أمنون كراكوتزكين، وهو اسرائيلي واستاذ في جامعة بن غوريون. جيل انيدجار، وهو اسرائيلي واستاذ في جامعة كولومبيا. روني برومان استاذ علوم سياسية في باريس. وميشيل سيبوني استاذة ادب ورئيسة"الاتحاد اليهودي الفرنسي من اجل السلام". واخيراً، مارسيل فرانسيس كان، استاذ طب، مقاوم سابق، ومثله مثل اريك هازان من الناجين من حملات الاعتقال التي طالت يهود فرنسا، وملتزم مثله لمصلحة"جبهة التحرير الوطنية"خلال حرب الجزائر ثم الى جانب الشعب الفلسطيني، وبما انه ليس باستطاعتي ان اورد هنا ما قاله كل منهم امام المحكمة، فإنني سأكتفي على سبيل المثال بإيراد بعض المقاطع من شهادة ميشيل سيبوني: "المرة الاولى في حياتي التي اتخذت فيها موقفاً سياسياً بصفتي يهودية كان عند توقيعي العريضة التي حملت العنوان نفسه في صحيفة"لوموند"، كان ذلك بعدما اشرك الممثل الفرنسي ل"المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية الفرنسية"كريف علناً كل يهود فرنسا في دعم غير مشروط لشارون والسياسة الاسرائيلية سنة 2001. وفي أي حال فإن هذا الشخص نفسه السيد كوكيرمان، لنسمه باسمه، لم يتردد بأن يوصي رئيس الحكومة شارون، خلال زيارته لاسرائيل وهو فاخر بذلك في 26 ايلول سبتمبر 2001، في صحيفة"هآرتس" بانشاء وزارة للدعاية من نموذج غوبلز نفسه. وصرح انه عندما جاء شارون الى فرنسا، قال له انه لا بد له من انشاء وزارة للدعاية مثل غوبلز". وتطرّقت سيبوني الى المعتقلين الفلسطينيين الذين يحملون ارقاماً دمغها على اذرعهم العسكريون الاسرائيليون، ثم اقتبست من بي. ميكايل المعلّق في صحيفة"يديعوت احرونوت"قوله:"1942 - 2002 في غضون ستين سنة قصيرة من مدمَّغ الى دامغ. وفي غضون ستين سنة من مُعتَقَل في الغيتوات الى مُعتَقِل، ومن مجرَّد الى مجرِّد، ومن الذي يسير في طابور رافعاً يديه في الهواء، الى ذلك الذي يُسيّر طوابير الأيادي المرفوعة في الهواء، ومن ضحية لسياسة ترحيل مقيتة، الى داعم اكثر واكثر حماساً لسياسة ترحيل... كلها مجرد 60 سنة، ولم نتعلّم شيئاً ولم نختزن شيئاً بل نسينا كل شيء". بعد هذا الاستنساخ القاسي اشارت ميشيل سيبوني الى غضب الوزيرة الاسرائيلية السابقة شولاميت الوني:"ليس لدينا غرف غاز وأفران حارقة"، وفقاً لما اعلنته الاخيرة في 6 آذار مارس 2003،"ولكن ليس هناك فقط منهج راسخ واحد لاغتيال شعب". الحكم في قضية اريك هازان سيصدر في 21 كانون الثاني يناير 2005. واذكر بأن الناشر المتهم نشر مؤلفات عدة لمنشقين اسرائيليين من بينهم عميرة هاس وايلان باب وميشال فارشافسكي وتانيا رينهارت. واذكر ايضاً انه بنشره سنة 1999 لكتاب"المساواة او لا شيء"لادوارد سعيد، فإنه ساهم في كسر الصمت الذي كان يخيّم في فرنسا على اعمال المثقف الفلسطيني منذ صدور كتابه"الاستشراق". السؤال الذي اطرحه على نفسي هو الآتي: ألم يحن الوقت لكي نصبح نحن العرب اكثر عدداً في الاستلهام من الوقفة النموذجية لهؤلاء المثقفين اليهود الذين لا تخيفهم الوحدة؟ وألم يحن الوقت لترجمة اعمالهم ونشرها، وبالتالي مكافحة الميل المأسوي لاختزال شعب بأكمله ضمن اطار السياسات المرتكبة باسمه؟ وألم يحن الوقت لمكافحة هذا التيار المقزّز، من العداء للسامية، الذي يمثّل هنا وهناك، تعويضاً ملائماً عن عجزنا وانحلالنا؟ كاتبة لبنانية لها مؤلفات بالفرنسية، باريس.