محمود سامي البارودي 1839- 1904 واحد من الشخصيات الاستثنائية في تاريخ الشعر العربي الحديث. وهو لا يختلف عن غيره من الشخصيات الاستثنائية التي تقطع تواصلاً، وتؤسس تغيراً واعداً، واتجاهاً مغايراً، في علاقة جدلية بالتاريخ، فالشخصية الاستثنائية تأتي في لحظة متعينة من الزمن كأنها على موعد مع القدر، لحظة هي مفرق فصول، ومسافة واصلة وفاصلة بين نقائض: الموت والميلاد، الذبول والنماء، الخريف والربيع، الليل والنهار، الانحدار والنهضة، التقليد والابتكار. هذه اللحظة الزمنية تصنع الشخصية الاستثنائية التي تنطلق بإمكانات الدفع فيها، وذلك بالقدرالذي تسهم به الشخصية الاستثنائية في تفعيل طاقات الحياة المحتبسة في زمنها، فتصنع زمنها في التفاعل الذي يحيل مفرق الفصول إلى ابتداء جديد للفصول، مستبدلاً الميلاد بالموت، والنماء بالذبول، والربيع بالخريف، والنهار بالليل، والنهضة بالانحدار، والابتكار بالتقليد. ولا تفعل الشخصية ذلك إلا لأنها تنحاز إلى كل الإمكانات الموجبة الواعدة في زمنها النوعى، مهما صغرت أو قُمعت، أو كُبِحَتْ، فتدفعها وتندفع معها، بادئة أول المسار المختلف الذي يغدو استهلالاً متجدداً وتحقيقاً لحلم البعث. وحياة البارودي وإنجازاته الشعرية بوجه خاص تحقيق لذلك وتأكيد له، فقد جاء في اللحظة التاريخية التي كانت تجمع بين نقائض الثبات والتحول، لكنها اللحظة التي كانت تغلب فيها عناصر الثبات، وتتمطى فيها عناصر التحول كالبذور الدفينة التي تشرئب إلى النور، في حركتها من باطن الأرض إلى الشمس، فمنح البذور الدفينة قوة العزم، وحرارة الاندفاع، والشوق إلى رؤى المستقبل الواعد بالشمس والنسيم، مؤسساً لعلاقة المخالفة والمنافسة التي وصلته بالشعراء العظام في تراثه، الشعراء الذين بدأ بهم ليمضي بعدهم، وعرف أسرار إبداعهم بالمحاكاة التي سرعان ما تحولت إلى معارضة فاتحة أبواب الاختلاف الذي يحقق الحضور، والحضور الذي ينتقل بالوجود من شروط الضرورة إلى أفق الحرية. وكان من الضروري - والأمر كذلك - أن ينحاز البارودي إلى قوى التقدم ورموزه في عصره، ويبحث عن أشباهه من الذين اندفعوا بحركة النهضة في كل مجال فكانوا "زعماء الإصلاح" كما أطلق عليهم أحمد أمين 1886-1954 في كتابه الشهير الذي يحمل الاسم نفسه، أو دعاة التجديد ورواد التحديث: رموز النهضة وصانعيها في الإبداع شعراً ورواية ومسرحاً والفكر مدنياً ودينياً والمجتمع والسياسة. هكذا، انحاز البارودي العسكري، ذو الأصل غير المصري وغير العربي إلى العسكر المصريين في نزوعهم الوطني، وسعيهم المناقض للاستبداد والظلم والتمييز العرقي، كما انحاز إلى دعاة العقل من مفكري عصره الذين أعادوا فتح أبواب الاجتهاد، مؤسسين استنارة الزمن المقبل، وأعان بشعره على نشر أفكار طليعة المجتمع المدني الذي لا يعرف التمييز الغليظ بين فئاته وطبقاته وطوائفه، جنباً إلى جنب الدولة المدنية التي تعرف الدستور والبرلمان. وكان أولاً في مجال التجديد الشعري كما كان أقرانه أوائل في استحداث فن الرواية وفن المسرح في اللحظة الزمنية نفسها للنهضة التي صنعها كل واحد في مجاله. وإذا انتقلنا من العام إلى الخاص، قلنا إن محمود سامي البارودي الذي توفي منذ مئة عام كان بشير النهضة الإبداعية التي منحت الشعر العربي من حيوية التجدد ونضارة الإبداع ما أعاد للشعر العربي عافيته، وانطلق به في أفق من التغير الواعد، الذي أعاد للشعر علاقة الندية بالتراث الزاهر، وعلاقة التفاعل مع الحياة والأحياء، وعلاقة الإبداع مع الآداب المجاورة والمقاربة. وكانت البداية هي الإيمان بقيمة الشعر التي لا يمكن اختزالها في الاحتراف، أو السعي وراء الأمراء، والتي تمتد لتشمل الوجود وما بعد الوجود، واصلة ما بين الثرى والثريا، مقترنة بالإنسان الذي يصنع مستقبله مستهديا بالعقل الذي هو ميزان الرؤية، والخيال الذي هو مركبة الإبداع، والحرية التي يجاوز بها العقل والخيال شروط الضرورة وقيود التقليد. وأصل الحركة في ذلك كله هو الإحساس بالمكان الذي ينطلق منه الشعر ليعود إليه في الزمان الذي يتعامد على المكان في حركته التي تدفع الشعر وتندفع برؤاه. ولذلك ظل الشاعر - عند البارودي - في المرتبة الأسمى بالقياس إلى السلطان، أو من في حكمه، فالشاعر هو صاحب الرؤية التي تصنع المستقبل وتدل عليه، وهو الرائي الذي يرى ما لا يراه غيره، و: له البَلْجةُ الغراء يسري شعاعُها/ إذا غام أفُق الفهم، والتبس الأمر والشعر هو إبداع الشاعر الذي يبقى بعد فناء الجسد، ليظل كالنور المتنقل بين الأزمنة: تبلى العظامُ، ويبقى ذكره أبداً/ في كل عصرِ له سَجْعٌ وترنام هذا الإيمان بقيمة الشعر - بكل ما ينطوي عليه الإيمان من إعلاء لدور الشاعر في الحياة - هو الأصل في علاقة البارودي بأسلافه. وهي علاقة جمعت بين السلب الذي هو تكرار الماضي بحكم الضرورة، ومن منطلق مبدأ الواقع، والإيجاب الذي هو إضافةٌ في أفق الحرية، ومن منطلق مبدأ الرغبة. ولقد كان البارودي واعياً بأهمية الإضافة، والبدء من حيث انتهى السابقون، والاختلاف عنهم بما يؤسس حضوره المستقل واستهلاله المغوي. ولذلك مضى في الطريق الذي وصله بنا في عصرنا، ووصلنا به في عصره، فأصبح حياً بيننا بعد مئة عام من وفاته. ولم يبقه حياً إلا وعيه بأهمية المخالفة، لا على سبيل الإضافة الكمية، وإنما على سبيل الإضافة الكيفية التي تغير المسار، وتنقض الاتِّباع والتقليد، مجسِّدة شروط الزمن الواعد وأفق وعيه المختلف. ولا أزال إلى اليوم أذكر مطلع قصيدته: بقوة العلم تقوى شَوكةُ الأممِ/ فالحُكْم في الدهر منسوبٌ الى القلم /كم بين ما تلفظُ الأسياف من علق/ وبين ما تنفث الأقلام من حِكَمِ. وهو مطلع يعارض قصيدة أبي تمام الشهيرة: السيفُ أصدق إنباءً من الكتب/ في حدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللعب / بيضُ الصفائح لا سود الصحائف/ في متونهن جلاءُ الشكِّ والريب ولا تهدف المعارضة في هذا المثال إلى استعادة الرؤية القديمة لأبي تمام، والإعلاء من شأن السيف على القلم، وإنما نقض الرؤية القديمة، والاختلاف عنها، والإعلاء من شأن القلم على السيف، فالقلم قرين الإبداع وعلامة الفكر، وكلاهما السبيل إلى التقدم الذي لا نهاية له أو حَدّ. ولذلك كان الشاعر المبدع كالمفكر أو العالم أهم من الحاكم أو السلطان، وأعلى قدراً من القوة المادية التي يمكن أن تكون غاشمة أو عمياء، فإبداع الشعر مثل إبداع القلوب والعقول - في العلم - هو قوة الحركة الدائمة في الأمم، وعلامة مجدها، والتعبير الأزلي عما تقرأه هذه الأمم الناهضة في كتاب الكون الذي يظل في حاجة إلى الكشف. وقد انحاز البارودي الذي جعلوه "رب السيف والقلم" إلى القلم نهائياً، بخاصة بعد أن رأى ما فعلته القوة الغاشمة للخديو توفيق، والقوة الغاشمة للإنكليز الذين احتلوا وطنه بالسلاح العاري من الحق، والقوة الباطشة التي نفت البارودي مع أقرانه الثوَّار عن وطنه. وكان من نتيجة ذلك إدراك أولوية ما يرمز إليه "القلم" بصفته القوة العاقلة ورؤى المستقبل العادل الواعد. ولم ينفصل عن ذلك تحول بعض معاني الشعر لتقترن بنموذج الباحث عن دلالات كتاب الكون في الطبيعة والكائنات، يتأمل فيها، وينطق عجائبها، كما لو كان يقول لقارئه: رموز لو استطلعتَ مكنون سرها/ لأبصرتَ مجموع الخلائق في سطر وقد ظل هذا التأمل في الطبيعة والكائنات قرين إحساس روحي عميق في شعر البارودي، يقترب بالتدين من التصوف، خصوصاً حين يصفو العقل، وتنداح الحجب عن الروح، فتتحول الرؤية إلى رؤيا، فتغدو الأبياتُ "أزاهيرَ علم"، و"معاريض" أقفال لرموز لم تفتح إلا للقلوب الصافية، وبصيرة الشاعر الذي يمشي على قدم الخضر، كأنه الباحث الأبدي عن المعنى حين يغيب المعنى، والرائي الذي يرى ما لا يُرَى من علاقات بين الأشياء، أو بين الأشياء والكائنات، أو بين عناصر الكون التي تتجاوب في خياله، فلا يملك سوى أن يقول: وكيف؟! وإن أوتيتُ في النظم قدرةً/ أضمُّ شتات الكون في بعض أحرفِ؟! ولا شيء يكافئ هذا الوعيَ المرهفَ بالكون سوى ذات مرهفةٍ كالنصل، لا يغيب شعورها بحضورها الفاعل والمتميز، في التاريخ وبالتاريخ، وذلك إلى الدرجة التي تتعدد معها تجليات هذه الذات في تحولاتها، أعني التحولات التي تبدأ من الصبا، وتمضي إلى آخر أيام العمر، خصوصاً حين تتراكم المعارف ويكتهل الشاعر الحكيم الذي ناوش الأيام وناوشته أحداثها الجسام، فأدرك المعنى والمغزى من تراجيديات الصراع الإنساني. وقد كانت هذه الذاتية العالية - في بدايتها - قرينة شخصية الفارس الجسور - في شعر البارودي - الذي خاض المعارك، ووصف ميادين القتال، مؤكدة شجاعته التي اقترنت برهافة العين الشاعرة في التسجيل البصرى لكل شيء، ابتداء من تأكيد ملامح المكان - الوطن، وخصوصية طبيعته ومشاهده التي تجمع ما بين "الجيزة الفيحاء" و"روضة النيل"، مروراً بذلك الكرى الذي أخذ بمعاقد الأجفان، وانتهاء بالمنفى سرنديب الذي احتوى ذكرى صور الوطن، في علاقة الضد يظهر حسنه الضد. وقد كانت هذه الذاتية العالية قرينة الثورة على ظلم الحكام، والمطالبة بالعدل، والدعوى إلى الشورى، والخروج على الحاكم الظالم حين يجور. وهو المسعى الذي انتهى إلى الانكسار نتيجة الخيانة والتحالف بين الخديو المستبد - توفيق - والجيش البريطاني. وعلى رغم الانكسار، ظلت هذه الذاتية عالية، لا يعتذر صاحبها عن اشتراكه في الثورة على الخديو، مؤمناً بسلامة موقفه، يردّ على من اتهموه مدافعاً عن نفسه، وعن رفاقه في الثورة العرابية بقوله: يقول أناس إنني ثُرتُ خالعاً/ وتلك هناتٌ لم تكن من خلائقي / ولكنني ناديتُ بالعدل طالباً/ رضا الله، واستنهضتُ أهل الحقائق / أمرتُ بمعروف وأنكرت منكراً/ وذلك حُكمٌ في رقاب الخلائق / وإن كان عصياناً قيامي فإنني/ أردت بعصياني إطاعة خالقي / وهل دعوةُ الشورى عليّ غضاضةٌ/ وفيها لمن يبغي الهدى كلَّ فارق / بلى! إنها فرضٌ من الله واجبٌ/ على كلِّ حيٍ من مَسُوقٍ وسائقِ وقد كانت هذه الذاتية العالية الدرعَ الذي احتمى به البارودي في سنوات المنفى التي تطاولت، ووصلت إلى ثمانية عشر عاماً من الغربة والاغتراب والبعد عن الأحباب، في بلاد أجنبية، وصحبة سرعان ما دبّ بينها الشقاقُ وأمراضُ الهزائم والانكسارات. لكن الألم يصقل النفوس القوية كالمعدن الذي تزيده النار صلابة وقوة. ولقد استقطر البارودي من ألمه شعره الذي كان التأسيس الأول - في العصر الحديث - لقصيدة المنفى، تلك القصيدة التي كتبها بروح لا تزال تسري في الأسطر إلى اليوم، فتزيدنا قرباً منه، خصوصاً عندما نضع في اعتبارنا أن المنافي لا تزال ممتدة في عالمنا، موصولة بدوافعها ولوازمها التي بدأت من شعر البارودي، وظلت تجاوباتها قريبة من دلالة قوله: واطولَ شوقي إليك يا وطنُ/ وإن عرتني بحبكَ المحن / أنت المنى... والحديثُ إن أقبل الصُّ/ بحُ، وهمّي إن رنَّقَ الوسنُ / فكيف أنساك بالمغيبِ ولي/ فيك فؤادٌ بالود مرتَهنُ؟! ولقد كانت هذه الذاتيةُ العالية وراء الحكيم الذي استعان بالعقل ليواجه عبث الدهر، وخيانة الزمان، مفلسفاً انكسار ثورته بردّها إلى قوانين الوجود الذي ينوس ما بين النور والظلمة، الميلاد والموت، النماء والذبول، الشروق والغروب، كأنه الدائرة التي لا تتوقف عن الحركة، أو الفلك الدوار الذي لا يبقى على حال، أو الدولاب الذي يرتفع صاعداً بالبشر ليعود هابطاً بهم، ليعود من جديد صاعداً، مؤكداً الطبيعة اللانهائية بين نقائضها - أعني الحركة التي وصفها بقوله: تغيب الشمسُ، ثم تعود فينا/ وتذوي، ثم تخضرُّ البقول /طبائعُ لا تغبُّ مرددات/ كما تعرى وتشتملُ الحقول. وإذا كان السقوط والانكسار والهزيمة لازمة من لوازم هذه الحركة، فالصعود والانتصار والنهضة لازمة أخرى لا بد منأن تأتي، فبعد الليل النهار، والخصب يتبع الجدب، والأنجم تغيبُ إلى ميقاتها ثم تشرق:فلا تبتئس من محنةٍ ساقها القضا/ إليك، فكم بؤسٍ تلاه نعيمُ / وقد تورق الأشجار بعد ذبولها/ ويخضرُّ ساقُ النّبتِ وهو هشيمُ وقد أورقت أشجار البارودي بعد موته، وذهب الخديو توفيق والاستعمار البريطاني وبقي شعره غنياً بحضوره الذي غاص في زمنه إلى أن وصل إلى القاسم المشترك الذي يصله بزمننا. وها نحن - اليوم - نقرأ شعره الوصفي في الطبيعة فنشعر بحيوية المنظور التي تضعنا في قلب المشهد، وتجعلنا لا نبدأ من نجد أو وادي الغضا بل من مراعي صبا البارودي ما بين الجيزة والقاهرة، وتدفعنا إلى مواصلة رحلة الكشف - في رموز الأهرام وأبي الهول - عن كل ما يظل في حاجة إلى الكشف. ونقرأ هجومه على الظلم ودعوته إلى الشورى الحقيقية وضرورة إقامة العدل المقترن بالحرية فنشعر أنه ينادي بما ننادي به في هذه الأيام، ويعاني ما تعانيه أقطار عربية عدة، فنصرخ معه قائلين: وكيف يصلحُ أمر الناس في بلد/ حكّامُه لبنات اللهو خُدَّام؟! ونقرأ مراثيه للأحباب الذين فقدهم وهو بعيد عنهم، فيتجدد شعورنا بالتوحد الإنساني، وتتجاوب في جوانحنا أشجان المنفيين الذين لا يزالون خارج الأوطان، وأحزان المنفيين داخل أوطانهم، فنعرف معنى قوله الموجع: وفقدُ الخلِّ في غربةٍ: حَبْسُ. وأخيراً، نقرأ ما كتبه في تجاربه الروحية فتصفو أرواحنا، كما تصفو أذواقنا عندما نقرأ ما كتبه عن الشعر الذي جعله مرادفاً لقوة الخلق التي تتجدد بها الحياة على الدوام، والتي تجعل من الشاعر - إذا عرف سرها - متوهجاً بنار الوصل التي تلامس أفئدتنا بعد مئة عام من وفاته في الرابع عشر من كانون الأول ديسمبر 1904.