في الوقت الذي يعرض فيه ثاني اقتباس سينمائي لرواية للكاتبة ذات الانتشار هيلين فيلدنغ، وعنوانها هذه المرة "سن الرشد"، تعود الى الشاشة في شكل لافت للغاية شخصية بريدجت جونز اللطيفة جداً، والبريطانية جداً في آن. الى حد ما، على غرار الشخصية الإنكليزية الأخرى التي صارت معروفة وذات تقدير على الصعيد العالمي، شخصية هاري بوتر، ها هي بريدجت جونز وقد اصبحت الفتاة المدللة بالنسبة الى القراء والمتفرجين في انحاء العالم كافة، كما اصبحت ظاهرة اجتماعية حقيقية. والمرء لم يعد في حاجة الى ان يعرّف بشخصية جونز، وهي الآن الأشهر بين بنات الثلاثينات "العازبات" وهو مصطلح يخيل إلينا ان في مقدورنا ان نستخدمه للحديث عن النساء اللواتي اخترن العزوبية الدائمة، في مقابل العزباوات المنتظرات قطار الزواج. وبريدجت كما نعرف الآن، بعد روايتين وفيلمين، شخصية مؤثرة مع شيء من الابتذال، ما يجعلها تجسد بحذاقة كل واحدة منا. الجزء الأول والذي ظهر في 1998، كان يحمل عنوان "يوميات بريدجت جونز"، وبدا عبارة عن رواية لئيمة تهكمية ساخرة، تحمل في ثناياها قدراً كبيراً من المرح. وفي ذلك الجزء تعرف القراء الى بريدجت، التي كانت بلغت الثلاثين ولا تزال من دون زواج تنتظر اميرها الساحر يأتي ليبدل حياتها ونظرتها الى ذاتها، والعالم. والحال ان قوة هذه الشخصية كمنت في واقعيتها ومزاياها، ولكنْ ايضاً وخاصة في مساوئها. اما يومياتها فقد مكّنتها من ان تتوقف بدقة وتفصيل عند السجائر التي تدخنها، عند وزنها، عند الكحول الذي تحتسيه، والسعر الحرارية التي تلتهمها بين اشياء اخرى. اما "سن الرشد" الصادرة كرواية في 2000 فتشكل الجزء الثاني، وتبدو كتتمة ليوميات بريدجت جونز... وهي في الحقيقة تحتوي يومياتها الحميمة للعام التالي - لعام الجزء الأول -، وهو الذي شهد نضوج الشخصية، ضمن الحدود الممكنة. بيد ان الفريد في هذه التتمة، فهو رؤيتها للأحداث الخارجية، عبر منظور جزل متفائل: نظرة بريدجت نفسها. وفي هذا الإطار قد يكون من المفيد ان تعود الى هذا الكتاب الذي يرسم صورة للعام 1997، من حياة الآنسة جونز، وهو العام الذي وسمه حدثان بريطانيان كبيران، اولهما مقتل الأميرة دايانا، وثانيهما العودة المظفرة للعماليين الى السلطة، وقد جسدهم هذه المرة توني بلير، صاحب الكاريزما الأكيدة. بريدجت جونز فتاة عاطفية، وهي تعبر بصوت عال أو بالأحرى في مدونات يومياتها عما يستشعره كثر من ابناء جيلها. وهي تبدو مفتونة بفكرة المشاركة في الانتخابات، وكونها ساهمت في عودة حزب العمال الى السلطة. ذلك أن من الواضح ان بريدجت المتأثرة كثيراً بالأفكار السياسية التي يحملها افضل اصدقائها، والراغبة دائماً في معاندة المواقف السياسية التي يقفها اهلها، تنتمي الى أهل "اليسار". ومن هنا نراها تضفي، وبشيء من السذاجة، صورة مثالية على بلير الذي سترسل إليه بطاقة معايدة مع إعلان حب من طرف واحد عند نهاية السنة وتقدر عالياً أداء زوجته شيري، لا سيما جسد شيري الذي ترى ان من مزاياه كونه غير مكتمل وهنا من الواضح ان بريدجت تأمل في سرها ان تمارس شيري نفوذها على توني "كي يصدر أوامره الى كافة مخازن بيع الثياب بغية انتاج ثياب ملائمة لمؤخرات الناس اجمعين"!. في ذلك العام، انطبعت بداية ايار مايو بانعقاد الانتخابات وانتصار السيد بلير. غير ان بريدجت كان قُيّض لها، قبل ذلك، فرصة التعبير عن "افكارها" السياسية والدفاع عنها، خلال حفل ساهر أقامته حلقة من البورجوازيين، المحافظين بالتأكيد، المحيطين بصديقها الخاص. يومها تبدى وعيها السياسي واسعاً اتساع الصدمة التي فوجئت بها اذ علمت ان صديقها محافظ "على عماها". عند ذلك فُتح السجال، وانتفضت بريدجت ضد الجوانب الرجعية التي لمستها لدى محدّثيها. والحقيقة ان البعد الهزلي لذلك الموقف يكمن في سذاجة وابتذال المحاجّات التي تقدمت بها للدفاع عن اصدقائها الاشتراكيين. فمثلاً حين تُسأل "لماذا تراك تصوّتين للاشتراكيين؟" تجيب بعد امعان تفكير: "لأن المرء حين يصوت عُمالياً، يكون معنى ذلك انه يساري". ثم في مواجهة استشراس معارضيها في الضغط عليها، تؤكد ان كون المرء اشتراكياً إنما يعني "انه يدافع عن قضية الطبقة العاملة". عند ذاك، وحين يقال لها ان بلير لا ينوي زيادة سلطة النقابات، لا تجد ما ترد به إلا القول بأن "المحافظين يساوون صفراً لا اكثر". وبريدجت جونز حين توضع على المحك، تبدو على الفور عاجزة عن تبرير اختياراتها السياسية. فهي تصوّت للاشتراكيين لمجرد ان ذلك أمر حسن... نقطة على السطر. بيد ان هذا لا يمنع انها، في نهاية الأمر، ستخفي ضعف حجتها لتحل محله قوة عواطفها، مطبوعة بحسن نياتها: تلك العواطف التي ستعبر عنها بالعبارة التي تختتم السجال: "المهم هو التصويت من اجل المبادئ، لا من اجل التفاصيل المتعلقة بالنسب المئوية ... من الواضح ان العماليين يدافعون عن التقسيم العادل للثروة، عن الأريحية، عن المثليين جنسياً، عن الأمهات العازبات وعن نيلسون مانديلا، بالتعارض مع الأوتوقراطيين النصابين الذين يتنامون ذات اليمين وذات اليسار وفي الوسط، ثم يسرحون في فندق الريتز في باريس، ليعودوا بعد ذلك ويعطوا دروساً لمقدمي برنامج توداي". ونحن لم نفعل هنا إلا اننا رسمنا الواقع الثنائي اللون للآنسة جونز، الآنسة التي سيحدث فجأة لمحدثيها ان يستنكفوا عن معارضتها اكثر مما فعلوا. اما حماس بريدجت فسيصل الى ذروته يوم الانتخابات الذي سيتخذ بالنسبة إليها اجواء يوم الثورة الحقيقية، وهي تقول عن هذا: "انها الانتفاضة الكبرى للأمة ضد اصحاب مذهب "الربح بأي ثمن"، وضد غياب المبادئ، وغياب احترام الناس الحقيقيين ومشاكلهم". وفي هذا الإطار يبدو حافزها وقد وصل الى حدوده القصوى، هي التي باتت ترى ان الوقت حان للنهوض جميعاً في سبيل ممارسة السلطة "سلطتنا نحن ابناء الشعب المتحد في سبيل التغيير الكبير". وهنا، قبل ان تنطلق لممارسة حقها الثوري في التصويت، ستبدل بريدجت زينتها وملابسها لكي تبدو ناخبة يسارية. غير ان كل هذه الجهود لن تجدي من قبل بريدجت على الأقل، لمصلحة بلير. ذلك ان فتاتنا كانت تجهل انها، لكي تتمكن من التصويت، عليها اول الأمر ان تسجل اسمها على اللوائح الانتخابية، غير ان خجلها إزاء ذلك، لن يمنعها من الاحتفال مع ناخبي بلير حتى الصباح. معنويات بريدجت ستتبدل كلياً، إذاً، بعد الانتصار الذي انتظرته طويلاً، بفضل مجيء "عصر العماليين الجديد"، ذلك الحدث الذي كان املاً حقيقياً داعب جيلاً بأكمله بعد 18 عاماً من الحكم المحافظ. فتوني بلير، الذي درس الحقوق ليصبح في بريطانيا اصغر رئيس حكومة منذ 1812، جسد التغيير الحقيقي في بريطانيا، هو الذي ولد في ادنبورغ من اب محام، ودرس الحقوق في اكسفورد، وأصبح عضواً في البرلمان في 1983، وزعيماً للحزب العمالي في 1994، إثر وفاة جون سميث. ونعرف ان بلير، بغية الانتصار في انتخابات 1997، اخذ على عاتقه مهمة تحديث الحزب العمالي، محولاً مواقفه من اليسار الى الوسط جاعلاً "حزب عمال جديد لبدء عصر جديد". بفضل ذلك كله، تبدو بريدجت على قناعة الآن بأن حالتها الذهنية والروحية الجديدة، التي كانت اعتادت ان تكون مشتتة الأحكام، ترتدي اليوم طابعاً ايجابياً تماماً، وأن بريطانيا العظمى صارت بلد العجائب: "انني واثقة اليوم من ان كل الناس صاروا ألطف وأكثر تسامحاً في ظل النظام الجديد"، تقول آنستنا واثقة. بيد ان بريدجت، اذ تستفيد ذات مرة من لحظة صفاء ذهني وتقارن بين الوضع الراهن والوضع الذي تعرفه جيداً كونها عاشته، ستقول لنفسها عن حق: "على رغم كل شيء، بت اخشى من ان هذا التيار العمالي الجديد، سيكون كما حين يجتذب احدٌ احداً، ويخرجان معاً، ثم، حين تحدث اول خناقة بين الاثنين، ينتج عن هذا زلزال مريع". والحقيقة ان اكتساب الوعي هذا، إذ يفاجئ بريدجت، يمكنه ان يسمح لها ولنا بأن نفهم، وإن في اطار آخر، هزيمة جون كيري في الانتخابات الأميركية.