تشهد الدراسات العثمانية ازدهاراً كبيراً في الجامعات الأميركية والأوروبية منذ عقود عدة. وقد بدأ الأمر باكتشاف أهمية الوثائق والاحصائيات والجداول واوراق المحاكم الشرعية ومنشورات الدولة واجراءاتها وقوانينها. واستناداً الى ذلك كله جرت دراسات ميدانية كثيرة زعزعت من المسلّمات المستقرة حول الحكم السلطاني، ودولة الاستبداد الشرقي، ومدينة الانقسام والجمود. وقادت وثائق المحاكم الشرعية الشديدة الأمانة والدقة الى نظرة أخرى للنص الفقهي، ولكتب الفقهاء، ومختصراتهم المدرسية التي سادت في العصر العثماني المتأخر. فجرت من جهة إعادة للنظر في أجناس وأنواع التأليف الفقهي من المطولات والى المختصرات والحواشي والتعليقات وكتب القواعد والأشباه والنظائر والفروق، وكتب القضاء والسجلات، وقبل ذلك وبعده الفتاوى والواقعات. وانشغل الدارسون طويلاً بالوقف وتطوراته والمدارس الثماني، والأخرى المنتشرة في البلدات والأرياف. ودارت جدالات حول الهرمية الدينية العثمانية، وعلائقها بالسلطنة، وكيف تطور منصب مفتي اسطنبول الى شيخ الإسلام، وحدود تبعية المؤسسة الدينية للسلطنة، ومعنى الشرعية التي تأسست عليها الدولة المتحولة لإمبراطورية. وأقبلت مدرسة الحوليات عبر دراسة بردويل المشهورة عن عهد فيليب الثاني، على اعادة النظر في موقع الامبراطورية العثمانية في أوروبا، وفي النظام الدولي القديم. وكانت هناك مقارنات مطولة بين البلقان العثماني والبلقان النمسوي، وعلائق الامبراطوريات الروسية والنمسوية والعثمانية. وفي حين اعتبرت فئة قديمة من المستشرقين نظام الاقطاع مشتركاً حاسماً بين الامبراطوريات، ركّزت دراسات حديثة على الفروق بين الاقطاع الشرقي مركزة الملكية بيد الدولة والاقطاع الغربي المفهوم الآخر للملكية أو علاقات الملك بالنبلاء. وفي ضوء ذلك كله جرت اعادة النظر في مقولة الانحطاط التي سادت في كتابات عصر الاستعمار الأوروبي، وحقبة الدولة القومية في المغرب والمشرق، فاستناداً الى مدرسة الحوليات، ومدرسة التاريخ العالمي، ظهرت رؤية أخرى لتطور علاقات آسيا بأوروبا في ما بين القرنين الثالث عشر والثامن عشر، ما اقتصرت على مواريث نقد الاستعمار وثقافاته وكتاباته. ووقع تأمُّل التاريخ العثماني والوجود العثماني في قلب ذلك كله. وتوازن ذلك مع حقبة "الصحوة الإسلامية" التي أقبلت على تقريظ الدولة العلية ومواريثها باعتبارها حامية الاسلام والمسلمين. لكن العقدين الأخيرين، أفسحا المجال، تحت وطأة البحوث الميدانية والمقارنة لظهور مدرسة تركية وأخرى عربية في قراءة التاريخ العثماني، بمنأى عن اللعن والتقريظ. وفي هذه العجالة، نعرض محاولات أخرى للنتاجات المعاصرة في تأمل العثمانيين دولة وامبراطورية ومدناً وتاريخاً اقتصادياً وحضارياً.