على رغم ما طرحته العولمة على تعاظم قدرها وعمق مكانتها من حيرة عميقة الأثر لدى رواد الاستراتيجيات الكونية، ومع بروز تجلياتها المنطوية على تقنيات متفوقة وإمتداداتها المنعكسة والفارضة لنوع من التغير الجذري في طبيعة العلاقة الأزلية بين الزمان والمكان، فليس في ذلك ما يحول العربي عن نرجسيته الثقافية ويحيد به عن فتونه المطلق بتاريخه، ذلك الفتون الذي فوت عليه فرصة النظر والتفكر والتأمل لمعطيات العصر وأدواته، تلك التي عبرت بالإنسانية نحو آفاق لا نهائية لم يستقم معها أي منطق اعتيادي حيال ما يتسنى من لمسات بارزة تطفي على الواقع معادلات أخرى تجدد القناعة بأزمة الذات العربية وتوعكاتها وغيابها وقطيعتها مع أطر الوعي المعاصر!! فما زالت ذات العربي غارقة مغرقة في غير إشكالية ما، إذ لم تتوقف هواجسها تجاه معانٍ ومسميات مرعبة على غرار الغزو الثقافي والتغريب والاستقطاب وهو ما تتعسر في إطارها رحلة البحث عن الهوية. وليست هذه المعاني في ذاتها تمثل إشكالية أو باعثاً نحو الإشكالية إذا كانت هناك وضعية ثقافية خاصة متميزة تتجاوز عوارض وعثرات السباق الحضاري المحموم، فأحياناً ما تطرح لحظات التراجع كما من التساؤلات المغلوطة التي توهم العقول بالخوض في ضرورة حسمها بحثاً عن جوهر القضية في حقيقتها، والقضية كما يمكن تصورها منطقياً تتبلور على مستوى: كيف لنا أن نوجد ذاتاً ثقافية قوية متصدرة؟ وما هي العناصر التكوينية لهذه الذات؟ وما الوسائل المحققة لإستمراريتها؟ وكيف نجعلها تعبأ بالمتغيرات الحادثة؟ بل وكيف نجعلها تشارك في المنظومة الحضارية؟ وأيضاً كيف نجعلها تفكر في اتجاه مستقبلي؟ وقبل ذلك وبعده كيف نحلها ونحررها من عقدة التراث التي عاقتها طويلاً؟ بل وكيف نصل بها الى أن تضع مفهومات تأسيسية جديدة تستطيع خلالها ترجمة مفردات الواقع على نحو يقيني؟ أو كيف يتغير ذلك الميكانيزم الفكري ويحقق دافعية في الحركة الاجتماعية؟ عندئذ لن نفكر في ما نطرحه على أنفسنا إزاء قضايا هشة تفرضها ظروف التخاذل الفكري والهوان الثقافي والغياب الأيديولوجي. وحقيقة أنه لا بد لنا من أن نوجد مكوناً ذاتياً يعتبر مؤشر تميز ويكون هو الإضافة المنتظرة للهوية العربية، فمن غير المنطقي أن تتحدث الأجيال اللاحقة عن هوية أجدادنا نفسها، لكن الذي يراد هو هوية مستحدثة تكون محققة للدينامية الثقافية والطموح المعرفي المعاصر، فمثلاً إشكالية الأصالة والمعاصرة أو التراث والحداثة هي وهم خادع للعقل العربي عاشه طويلاً وما زال أسير دروبه وأصقاعه، وقد زلزل طوفان الوعي المعاصر تلك الإشكالية وأنزلها من عليائها حتى حين طرحت لدينا بمسميات جديدة لأنها عولجت بالمعيارات القديمة نفسها على رغم أن للحداثة لغة خاصة لا يمكن استقاء مفرداتها من أعماق الأرضية التراثية الا في إطار مجموعة من التعميمات والتجريدات التي لا تتسق واللحظة الآنية. بل ان هذه القضية في الأصل غير جائزة الطرح فضلاً عن جواز الإستغراق حول نقاطها ومحاورها الا لتلك الشعوب المتمتعة بحاضر مهيب مؤهل لمستقبل راقٍ، من ثم تكون هناك جدليات كثيرة حول طبيعة تراثها العتيق الممثل لأصل هويتها وبين حاضرها الممثل للهوية نفسها لكن في مراحلها المتقدمة والمشيرة الى وجود خط تصاعدي تختلف بداياته عن نهاياته لأنها مدعومة بعناصر البقاء في الحاضر ومتواصلة مع خيوط المستقبل لا خطاً أفقياً ولا فرق بين محكاته على وجه الاطلاق. أقول إن قضية الأصالة والمعاصرة لا يمكن بلورتها أو إختزالها قط في موقف نظري أو إشكالية ذهنية مجردة وإنما هي توجه عقلاني خاص نحو تفعيل التاريخ والثقافة والأفكار والعقائد بمعنى أنه إذا لم يستطع تراثنا تحقيق الدافعية الحضارية في الشكل الذي يسمح لنا بترجمة الرؤى المطروحة كونياً في أبعادها المختلفة، فلسنا في حاجة ملحة اليه، إذ أن التحرك نحو أطياف المستقبل يرتبط في الأساس بأدوات المعاصرة التي تبدأ بالتفاعل والتواصل والإندماج والمشاركة، من ثم تنتهي إلى أقصى درجة من سمو الهوية وإرتقائها وشموخها وصلاحيتها للتأثير والتأثر في الهويات العملاقة التي تتنازع سلطة التفرد والاستحواذ على مقدرات العولمة تاركة لغيرها ان تنعم بالنكوص إلى الماضي السعيد تجتر ذكرياته ومآثره وتسبح في أغواره ناسجةً حوله الأحلام والأساطير مشبعة ذاتها بتلك الصوفية التاريخية غير مكترثة بعواصف الحاضر وكوارث المستقبل. * كاتب مصري