عادت كلير من غرفتها حيث كانت تتكلم عبرالهاتف، الى الصالون حيث كنا جالسين وقالت لنا ان احد اصدقائها سيأتي لينضم الى السهرة، واننا يجب ان نغير طريقة جلوسنا، وان نحرك بعض قطع الاثاث، كي يستطيع صديقها المشلول ان يدخل بكرسيه الكهربائي، وان يجلس بيننا. قالت ذلك ببساطة، وبدأت تزيح الطاولة الكبيرة التي تسدّ الطريق. طريق وهمية ظهرت فجأة في صالونها، بين قطع الأثاث وبين الزوار، وقمنا كلنا نساعدها على فتحها. وضعنا الأثاث كله في زاوية من الغرفة الضيقة، وجلسنا حول الطاولة تاركين الجزء الأكبر من الغرفة فارغاً، وبقينا بضع دقائق على هذا النحو من دون ان يعلق احدنا على الموقف، او ان يذكر موضوع الشاب الذي كان في اذهاننا جميعاً. اريك الذي كان يجلس على الارض، كما يحب الشباب الفرنسيون ان يفعلوا، كان اول من تكلم عن الضيف المميز، قبل وصوله. قال انه سيلاحظ جلوسنا هكذا في زاوية الغرفة متلاصقين ببعضنا بعضاً حالما يدخل، وان ذلك قد يضايقه او يصدمه."سيعرف اننا فعلنا ذلك من اجله"، اضاف اريك وتابع:"اننا حركنا الاثاث لنفتح له طريقاً". كأننا نكون فشلنا في معاملته بتساو مع الاشخاص العاديين، اذا هو انتبه الى مجهودنا الذي قمنا به من أجله. كأنه نسى انه مشلول الرجلين، ونحن، بطريقة توزيع مجالسنا، سنذكره. قالت له كلير ان مارك، الشاب المقعد، معتاد على ذلك."هي مسألة تقنية فحسب. فهو لا يستطيع ان يدخل، بكرسيّه الكهربائي، اذا لم نفتح له الطريق". كيفية التعامل مع المعوقين هاجسنا نحن العاديين. نرتبك حين نلتقي بأحدهم، ونفكر كثيراً في كيفية تصرفنا معهم، فلا نعود نعرف كيف نتصرف. لا تستطيع عيوننا إلا أن تنظرالى عاهته، بخلاف ما نريدها ان تفعل، ولا تظل كلماتنا عفوية. نجهل كيف نتصرف، نحن الاشخاص العاديين، حين نلتقي بهؤلاء المختلفين عنا. نشعر بأننا يجب ان نساعدهم، ان نكون لطفاء، ان نشفق عليهم. نفقد كل عفويتنا، وتلقائيتنا. فالشفقة هي عاهتنا التي تجعلنا مختلفين عنهم، وهم عاديون. وصل الضيف الذي كنا ننتظر. دخل وعلى وجهه ابتسامة من تلك الابتسامات التي لا يملكها الا من هم مثله. يبتسمون كأنهم يساعدوننا على نسيان مشكلتهم، او على عدم الانتباه اليها. دخل مارك وجلس بيننا، وانا صرت اراقبه واراقب الآخرين. واكتشف كم انه هو عادي، لا عاهة فيه، فيما الآخرون ما عادوا، منذ وصوله، عاديين. اكتشفت ان الشباب الفرنسيين ايضاً لا يعرفون كيف يتصرفون مع معوقيهم الا اذا كانوا، مثل كلير، معتادين على ذلك. كما في لبنان او غيره من البلاد. ولكن في المقابل وضع المعوقين أنفسهم مختلف عن الذين في لبنان. ذوو العاهات الجسدية الفرنسيون، يذهبون وحدهم للسهر عند اصدقائهم. ويذهبون الى السوق والسينما والجامعة، ويستقلّون القطار والطائرة، وينزهّون كلابهم في شوارع باريس. غالباً ما اراهم، على كرسيهم الكهربائي الذي يأخذهم أو يكاد حيث يشاؤون. بذلك هم مختلفون عن اللبنانيين الذين مثلهم. وانا اذكر انني في البداية، حين وصلت الى باريس، رحت افكر حين ارى احدهم على الطريق، انني في لبنان نادراً ما كنت ارى معوقين. كأن لا ذوي حاجات خاصة هناك. لا نراهم لأنهم يبقون في بيوت أهلهم شبه مسجونين، يمضون حياتهم فيها فلا نراهم في الشوارع او في المقاهي او غيرها من الأماكن العامة. بينما المعوقون في فرنسا، مثل مارك، يعيشون غالباً وحدهم، في شقق مجهزة لهم. مستقلون في حياتهم وصداقاتهم. وعلى رغم ذلك يعترضون على وضعهم في المجتمع الفرنسي، وينزلون الى الشوارع ليتظاهروا، منددين بالصعوبات التي تواجههم احياناً في الشوارع او الأماكن العامة غير المجهزة، ويرفعون دعاوى على شركات القطارات او الطيران التي لا تسمح لهم بالسفر، او تقبل ولكن في ظروف سيئة. اكثر من ألف معوق نزلوا الأسبوع الماضي الى الشارع وتظاهروا حاملين لافتات ومنادين بشعارات... تظاهروا كما يحب الفرنسيون ان يفعلوا، من أجل ان تصبح حياتهم افضل. لا شيء اكثر من اعتراضاتهم هذه وتظاهراتهم يرمز الى حريتهم واستقلاليتهم. لهم حياة خاصة، معوقو باريس. فالاعاقة هنا لا تجرد المرء من انسانيته ومن حياته، كما في بلاد أخرى. ... حين هممت بالخروج قال مارك انه خارج هو ايضاً، وسألني ان كنت اريد ان نذهب سوياً. خرجنا من بيت كلير. مشيت الى محطة المترو، وهو مشى على كرسيه بجانبي.