خلال الحملات الصاخبة في الانتخابات الأميركية الأخيرة لوحظ قيام المثقفين الأميركيين بدور أكثر قوة من أي وقت مضى لمنع وصول جورج بوش الى البيت الأبيض من جديد. "أنا لا أعرف شخصاً واحداً سينتخب بوش" قال المسرحي الكبير آرثر ميللر "فكيف سينجح؟". المهم في المسألة ليس نجاح بوش أو فشله بل تكريس حال الشيزوفرينيا بحجة الديموقراطية في الولاياتالمتحدة، إذ هناك انشطار عمودي في الذات الأميركية يتجاوز مجرد التباين في وجهات النظر أو الاختلاف على النظرة السياسية، محلياً وعالمياً على السواء. وفي أعقاب الانتخابات طفت على السطح النتائج الانسانية للفشل الديموقراطي، وتبيّن ان عيادات الأطباء النفسانيين غصت بالمحبطين والمكتئبين وفاقدي بوصلة الاتجاه في حياتهم الشخصية والعامة. إلا ان آرثر ميللر ليس واحداً من هؤلاء. في التاسعة والثمانين من عمره ولم يزل منتجاً ومتشبثاً بموقفه اليساري المناهض لكل ما يتعلّق بسياسة الولاياتالمتحدة في عهد بوش. يعيش ميللر مع صديقته الجديدة آغنيس بارلي 34 سنة بين مزرعته في روكسبيري بولاية كونيكتيكيت وشقة صغيرة في نيويورك، يأتيانها معاً للابقاء على اتصالهما بما يجري فنياً وثقافياً، ولمتابعة أعمال ميللر الأدبية ومصالح صديقته التشكيلية. ويقول ميللر انه يفضل رفقة النساء لأنهن أكثر حيوية وأفكارهن أقل تجريدية من أفكار الرجال. فبعد وفاة زوجته لأربعين سنة، أينغي موراث التقى منذ سنتين هذه الرسامة الشابة التي "شاءت أن تمشي معي الخطوات الأخيرة، ذات البطء والسرعة في آن". في لقاءاته النادرة مع الصحافيين اعتاد ميللر أن يرفض التطرّق الى موضوع حياته الحميمة مع مارلين مونرو، إلا أن مسرحيته الأخيرة في برودواي "إنهاء المشهد" أعادت فتح الجراح القديمة التي خلفتها مسرحية "بعد السقوط" أولى محاولاته معالجة موضوع مونرو على الخشبة الدرامية. وكانت "بعد السقوط" عادت الى برودواي أيضاً الصيف الماضي، فيما بدأت العروض التمهيدية ل"إنهاء المشهد" في شيكاغو على مسرح غودمان من اخراج روبرت فولز. ويحاول ميللر في هذه المسرحية استشفاف الكنه الخفيّ لذكريات صناعة فيلم THE MISFITS الذي كتبه خصيصاً لمونرو ورافق تصويره وفيه طلب الى جون هيوستن أن "يتركها على غارب طبيعتها" فإذا بها "تؤدي" أفضل أدوارها السينمائية وذلك الى جانب كلارك غيبل ومونتوغومري كيلفت. السؤال الذي يطرحه تكراراً نقاد المسرح، إن في شيكاغو أو في نيويورك: لماذا شاء ميللر العودة الى شريط لقي نجاحاً متواضعاً في شباك التذاكر، لكنه عرف اهتماماً أوسع بسبب أجواء تصويره والمناخ البوهيمي الذي رافق مراحل انتاجه. الواقع ان ميللر كتب السيناريو في محاولة يائسة لترميم صورة مونرو كمجرّد رمز جنسي أو "شقراء غبية" كقول الانكليز والأميركيين على السواء. وفي قرارته شيء من الذنب لأن محاولته باءت الفشل، خصوصاً ان النهاية الفاجعة لمونرو سقط الكثير من فتاتها على مائدته. ولذا تراه شاء "إنهاء المشهد". لكن أي مشهد؟ في صيف 1960، أي بعد أربع سنوات على زواجهما، وصلت مونرو الى رينو لتصوير "اللامنضوون" وأمضت الشهور الثلاثة اللاحقة متأرجحة بين الصحو والدوار بسبب اسرافها في تناول حبوب "نيمبوتال" المهدئة للأعصاب، مما أثر سلباً في أدائها وحفظ دورها وجعلها عدائية، خصوصاً حيال زوجها. وفي نهاية التصوير انتهى زواجهما، لكن "المشهد" لم ينته فصولاً نسبة الى ميللر. ففي السنوات اللاحقة رافقه شبح مونرو كالظل، وفي "بعد السقوط" التي كتبها قبل مرور سنتين على وفاة مونرو، كانت شخصية البطلة ماغي قريبة جداً من كيتي في "إنهاء المشهد". الفارق ان كيتي لا تظهر شخصياً إلا لثوان ولا تقول سوى كلمات قليلة فيما صورتها تتجوّل على أفواه الشخصيات الأخرى بقدر ما يروم شبحها أروقة الفندق، عارية. وكما هي الحال في فيلم "اللامنضوون" تجرى أحداث المسرحية في الغرب الأميركي وفي فندق بلا اسم، حيث يحاول منتج الفيلم اتخاذ قرار بعد مضي خمسة أسابيع على بدء التصوير بينما البطلة غير مستقرة نفسياً وغير قادرة، على ما يبدو، أن تنهي التصوير. مرابطة في غرفة الفندق. الحرارة في الخارج تشوي العصافير على الغصون والاستوديو يخسر الملايين بسببها، أما هي فتتناول الحبوب وتأكل "الآيس كريم" صباحاً ومساء، و"ثمة أشباح قابعة على صدرها، أشباح أفعالها"، كقول أحد الممثلين. واضح ان ميللر لا يخفي قسوته حيال "الدلع" الهوليوودي الشهير، بل تراه يدين هوليوود تكراراً بسبب تحويلها القيمة الفنية الى سلطة قيد العرض والطلب، وكان كتّاب سيرة مونرو انتقدوا نظرته المكابرة الى الفن الشعبي، فهو يرى في مجمل ثقافة "البوب" علامة على تدهور أو تهميش المسرح الجدي والثقافة العامة للأمة: "كان للمسرحية الجيدة وقعها الملحوظ على حياة المجتمع. أما اليوم فكل شيء مجرّد ترفيه. ربما لأن المنافسة أسقطت مكانة القيمة الأخلاقية والاجتماعية. ومن جهة أخرى أصبحت الدعاية هي الفن المتصدر حياتنا هذه الأيام، كونها ترسم وجدان الشعب أكثر مما يفعل الفن الحقيقي". ويضيف ميللر: "يصعب عليّ اليوم أن أقول هذا الكاتب يمثل أميركا. بينما كان ذلك ممكناً أيام فيتزجيرالد وهمنغواي ودوس باسوس". وفي لفتة يائسة الى مكانته ونتاجه يقول ميللر: "من المرجح جداً انني سأذهب أدراج النسيان. 99.99 في المئة من مجمل العمل الفني مصيره النسيان. كم كاتباً تبوأ سدة زمانه ثم اندثر، التاريخ وحش هائل ينفض ظهره ويلقي بكل ما عليه". أما كيف يتمنى أن يذكره التاريخ فيقول: "أحب أن يذكرني كرجل كتب ما يشعر به".