ربما تكون مسرحية «الثمن» الأقل شهرة بين أعمال آرثر ميلر، وعلى الأرجح، هي المسرحية التي تقدم عادة اقل من غيرها من بين مسرحياته. ولا يعود السبب الى ضعف في المسرحية، بل ربما لأنها كتبت متأخرة عن المرحلة التي توصف بأنها فترة العصر الذهبي في حياة هذا الكاتب الذي رحل قبل سنوات عن عالمنا، وكان واحداً من كبار كتاب المسرح الاجتماعي في اميركا على الأقل، خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ومع هذا علينا ان نلاحظ، في صدد الحديث عن آرثر ميلر، ان شهرته لدى العامة تعود الى انه كان آخر ازواج النجمة مارلين مونرو التي ارتبط اسمه باسمها، اكثر مما تعود الى انتشار اعماله الدرامية. غير أن هذا لا يمنع من الإشارة الى ان بعض مسرحياته، مثل «مشهد من على الجسر» و «موت بائع متجول» و «كلهم ابنائي» و «البوتقة» تعتبر دائماً أعمالاً شعبية ذات مكانة لدى الجمهور العريض، خصوصاً ان السينما والتلفزيون عمدتا الى اقتباس هذه الأعمال وإعادة تفسيرها. وفي هذا السياق ايضاً، تبدو مسرحية «الثمن» اقل حظوة من غيرها. كتب آرثر ميلر «الثمن» في عام 1968، أي بعد اربع سنوات من كتابته تلك المسرحية التي وضعت تحت وطأة انتحار مارلين مونرو، أي «بعد السقوط»، وكان انقضى اكثر من عقد ونيّف منذ ظهرت آخر مسرحية كبيرة لميلر، «مشهد من على الجسر»، كما كانت انقضت سنوات منذ بداياته القوية، بحيث ان كثيراً من النقاد والمتابعين رأوا ان ميلر انتهى ككاتب مسرحي. ومن هنا حين اتت «الثمن» نظر إليها اول الأمر كظاهرة، اكثر منها عملاً يتابع مسار ميلر في المسرح الاجتماعي الأميركي. والأدهى ان هذه المسرحية التي لا يتجاوز عدد شخصياتها اربع شخصيات، تقوم اساساً على الحوار وحده، بمعنى ان لا فعل فيها. كما ان موضوع المسرحية كله يبدو وكأنه يدور في حلقة مفرغة، اذ - على رغم قسوة المواقف والحوارات التي نشهدها - لا تحدث اية خبطة مسرحية، ولا تؤدي الحوارات على عنفها الى حدوث أي تبديل في حياة الشخصيات. او بالأحرى الشخصيتين الأساسيتين، مع العلم أن الشخصيتين الأخريين تبدوان في مواقفهما ووضعيتهما كأنهما آتيتان من خارج «الفعل» الرئيس الذي يتقاسمه «البطلان»، وهما الأخوان فيكتور ووالتر. اما مكان «الحدث» فواحد وزمانه واحد ايضاً. وأما الشخصيتان الأخريان فهما استير زوجة فيكتور وسالمون، تاجر الأثاث العتيق الذي تجاوز الثمانين من عمره. المسرحية، في جوهرها، تدور اذاً، حول فيكتور ووالتر، وهما شقيقان يسير كل منهما الآن الى حدود الخمسين من العمر. وسنفهم بسرعة انهما لم يكونا التقيا منذ سنوات طويلة. اما اللقاء هنا فحتّمه موت الأب منذ فترة، واضطرار الأخوين الى بيع ما خلّفه هذا الأب من أثاث لتقاسم ثمنه على سبيل الإرث. وسالمون هنا ليشتري هذا الأثاث. والأثاث مكوم في الغرفة التي تدور فيها مشاهد المسرحية، في شكل عشوائي، بحيث ان الشخصيات ستصطدم به طوال الوقت. ولعل هذا الاصطدام رمزي، طالما ان هذا الأثاث يمثل آخر حضور للأب الراحل بين الشقيقين، وأن فحوى ما تدور المسرحية حوله هو علاقة الأخوين في ما بينهما، ولكن من حول علاقة كل منهما بأبيه. وهذه العلاقة سندركها بسرعة منذ لحظات المسرحية الأولى، حين تكون استير وزوجها فيكتور اول الواصلين الى الشقة. ونفهم بسرعة ان فيكتور رجل بوليس أوقف عن العمل منذ فترة... ثم نفهم ان فيكتور الذي بدأ حياته طالباً للعلم، وكان يريد لنفسه مستقبلاً علمياً، «اضطر» الى ان يقطع دراسته باكراً، فور تقاعد الأب عن العمل، لكي يبقى الى جانبه، فيما واصل الشقيق والتر دراسته حتى تخرج في الجامعة وأضحى طبيباً جراحاً ناجحاً. بالنسبة الى فيكتور هو ضحية تركيبة تلك الحياة العائلية... لأنه لولا تضحيته بمستقبله في سبيل البقاء مع الأب، ما كان في وسع والتر ان يواصل دراسته لينجح. وفيكتور هنا الآن لكي يذكّر اخاه بهذه «الحقيقة». اما استير فإن كل همها، ومنذ البداية، يكمن في ان يقتنع والتر بمساعدة اخيه مادياً ومعنوياً للحصول على عمل مربح يعوض عليه ما خسره طوال حياته ك «ثمن» لتضحيته في سبيل العائلة. والحقيقة ان والتر كان من شأنه ان يقدم العون، لولا ان فيكتور بادر الى تحميله المسؤولية كلها، ملحّاً على فكرة انه ضحى في سبيل العائلة. والسجال حول هذا بالتحديد، هو موضوع المسرحية... ذلك ان والتر لا يرى الأمور على هذا النحو. بالنسبة إليه لم تكن هناك تضحية ولا يحزنون... وكذلك بالنسبة إليه، ها هو لا يريد الإقرار بأنه «اذ افلس الأب خلال حقبة الركود الاقتصادي الكبير في اميركا بعدما كان له عمل ناجح» تخلى عن مسؤولياته العائلية ليتبع - بحسب تعبير فيكتور - انانيته ومصلحته الشخصية. ان والتر يشير، اذ يطفح به الكيل، الى ان التضحية التي قام بها فيكتور لم تكن، أصلاً، ضرورية، خصوصاً ان الأب كان يملك بعض مال يمكّنه من العيش بدعة، ومن دون ان يحتاج إلى الآخرين، ثم انه كان، حين افلس وتقاعد، صغيراً في السن ما كان من شأنه ان يؤهله للعمل ومواصلة حياته، بدلاً من الركون الى البيت وسط رعاية فيكتور له. على هذا الكلام، الذي يفاجئ استير، ويسلّي سالمون، يرد فيكتور بأن كل ما قاله والتر قد يكون منطقياً... ولكن ما العمل والوالد كان يعيش خوفاً مرضياً من ان يترك ذات يوم. إن هذا الخوف المرضي هو ما حرك عاطفة فيكتور يومها ودفعه الى التخلي عن كل شيء من اجل سعادة الأب، في الوقت نفسه، الذي انصرف فيه والتر ليعيش حياته ويبني مستقبله الناجح، غير مبالٍ بالأمور العائلية. غير أن هذا الكلام الذي كان عليه ان يفحم والتر، لا يهزه... فهو كان كوّن لنفسه نظرة متكاملة عن الأمر برمته، وها هو لا يريد لفيكتور ان يشعر بأية عقدة ذنب... ومن هنا يشن هجومه المضاد، الذي فحواه دائماً ان تضحية فيكتور كانت عبثية... بل لا علاقة لها بوضعية الأب على الإطلاق. لقد أقدم فيكتور على هذا لأنه في الأصل فاشل، وإنما هو يخفي فشله خلف اسطورة التضحية هذه. في معنى ان الأب لم يكن في حاجة الى فيكتور لكي يساعده على العيش، بل فيكتور كان هو الذي احتاج الأب لكي يستخدمه مشجباً يعلق عليه فشله. هكذا، انطلاقاً من هذا الحوار العنيف يصل الأخوان الى الطريق المسدود... ويواصل آرثر ميلر، ما كان بدأه قبل عشرين سنة من كتابتها، أي تحليل العلاقات العائلية، والتمعن في تأثير الماضي في الحاضر، ومسائل مثل الشعور بالذنب والمسؤولية ومعرفة الإنسان جوانيتَه. وهي كلها امور كان ميلر يرى انها تختبئ - من دون نجاح كبير - في خلفية الحلم الأميركي. ذلك ان الأخوين معاً فاشلان بالنسبة الى مسرحية «الثمن»... اذ حتى لو كانت محاججات والتر منطقية، لن يفوتنا ان ندرك انه هو الآخر لم يكن سعيداً في حياته، بل انه بدوره دفع «ثمناً» باهظاً في مقابل نجاحه... وربما كان «الثمن» خوفه الدائم من ان يضطر الى مجابهة نفسه يوماً. وها هو الآن إذ يجابه اخاه ويجابه نفسه، تنتهي به الأمور كما بدأت، تنتهي الصفقة، ويتجه كل من الأخوين في طريقه غاضباً. ولا يبقى سوى سالمون الذي حصل على الأثاث في مقابل «ثمن» زهيد. ولد آرثر ميلر في عام 1915 في نيويورك، وبدأ كتابة المسرحيات باكراً... اما شهرته فبدأت عام 1974 مع اول مسرحياته الناجحة «كلهم ابنائي»، التي اعتبرت دائماً علامة من علامات المسرح الاجتماعي القاسي في القرن العشرين وليس في الولاياتالمتحدة فقط بل في ريبرتوار المسرح العالمي. ونذكر هنا للمناسبة ان آرثر ميلر كتب مباشرة للسينما سيناريو فيلم «المنحرفون» الذي أخرجه جون هستون وجمع في بطولته ثلاث نجوم كان الفيلم من آخر اعمال كل منهم: مارلين مونرو، كلارك غايبل ومونتغمري كليفت. [email protected]