الدكتور سلام فياض، وزير المال الفلسطيني، حكى لي قصة معبرة، فقد اتصل به يوماً تيري لارسن، المبعوث الدولي، وقال له ان اسرائيلياً يعرفه يملك معلومات عن أموال الفلسطينيين. وقال الوزير في نفسه: فُرجت، ورجا لارسن تزويده بالمعلومات. وفي اليوم التالي جاء رجل أمن يحمل مظروفاً مغلقاً ومختوماً بالشمع الأحمر. وعندما فتحه الدكتور فياض وجد فيه نسخة من رسالة خطية كان تلقاها من الأخ محمد رشيد وضمت أساس المعلومات التي استعملت لحصر الأموال الفلسطينية. ويبدو ان الاسرائليين حصلوا على نسخة من الرسالة، هي ما وصل الى الدكتور فياض. وأكمل من حيث توقفت أمس في حديثي مع الأخ سلام عن أموال الفلسطينيين، فالوضع تحسن على رغم الصعوبات التي رافقت انتفاضة الأقصى بعد أن قاد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز الحملة لجمع بليون دولار من الدول العربية لمساعدة الفلسطينيين. وكان الدفع مباشراً، إلا ان قمة بيروت قررت ان يكون الدفع بعد ذلك من طريق جامعة الدول العربية. قال الوزير ان الدفع كان منتظماً سنتي 2000 و2001، الا انه تراجع بعد ذلك. تحتاج السلطة الوطنية الى 134 مليون دولار في الشهر لتغطية التزاماتها كلها، الا انها تنفق في حدود مئة مليون دولار في الشهر، تزيد أو تنقص قليلاً، بحسب الدخل، مما يعني تراكم المتأخرات على السلطة في النهاية. وعندما تسلم الدكتور فياض وزارة المال قبل حوالى سنتين كان الايراد من الضرائب والجمارك والمبيعات وغيرها حوالى 45 مليون دولار في الشهر، بسبب سوء الإدارة والتهريب والتهرب من ادفع، ووجود مراكز قوى"فاتحة على حسابها"كما يقولون. وعلى رغم هبوط دخل الفرد الفلسطيني بسبب الانتفاضة، فإن التحصيل زاد الى حوالى 75 مليون دولار في الشهر، من دون رفع معدل الضرائب. التحسين في الأداء الفلسطيني، تحت اشراف البنك الدولي والمنظمات الدولية الأخرى، كان يمكن أن يعطي نتيجة أفضل لتغطية معظم الحاجات الفلسطينية، لولا ان هذا التحسين رافقه انخفاض في المساعدات العربية في السنتين الأخيرتين فبقي الوضع على حاله. والبنك الدولي أصدر في نهاية السنة الماضية"شهادة حسن سلوك"عن عمل وزارة المال الفلسطينية، فقال انها من أكثر الوزارات شفافية في الشرق الأوسط كله. ويستطيع القارئ أن يزور موقع الوزارة على الانترنت، ويقرأ تفاصيل الواردات والنفقات، والاستثمارات وأنواعها وعائداتها. وأسأل الدكتور فياض مرة أخرى أين فلوس أبو عمار، وهو يسأل بدوره، ويرجو من أي دولة أو انسان يعرف شيئاً عنها أن يقدم معلوماته الى السلطة، أو ينشرها علناً ليتابعها أي طرف يهمه الموضوع. لن أفاجأ إذا اكتشفنا بعد شهر أو سنة وجود حساب سري أو أكثر، إلا أنني سأفاجأ حتماً إذا وجدنا مبالغ كبيرة في هذه الحسابات، فقد تابعت عمل أبو عمار من دون انقطاع حتى وفاته ولم أجد يوماً ما يوحي بثروة كبيرة. عندما كان أبو عار في تونس، وخصوصاً بعد 1990 وموقفه من الكويت، بلغ به الضيق المالي حداً أنه كان لا يستقبل ضيفاً عربياً، خصوصاً من الفلسطينيين، إلا ويحمله على التبرع بمبلغ ما لتغطية نفقات منظمة التحرير. وكان بعضهم يتبرع بعشرة آلاف دولار أو أكثر بحسب القدرة. وأعرف اثنين من الفلسطينيين الأثرياء الذين يقيمون في لندن، فقد تبرع كل منهما بنصف مليون دولار، وتبرع أحدهما مرتين. وهم دفعوا نفقات مفوضية فلسطين في لندن بعد توقفها من أبو عمار على رغم ان السفير عفيف صافية أنجح ديبلوماسي فلسطيني في الخارج. وبلغت الضائقة المالية حداً أن ياسر عرفات كان يصدر تذاكر السفر للمسؤولين في المنظمة بنفسه، لقلة المال، وأصبح يدير مكتب سفريات إضافة الى الثورة. أكتب هذا لا دفاعاً عن الرئيس الراحل، وانما في محاولة للوصول الى الحقيقة. وقد انتقدت أبو عمار في حياته، وكررت الانتقاد، وطالبته بالاستقالة، ولم أسحب طلبي حتى مضى الى جوار ربه. وعندما وجدت أن اختنا سهى عرفات أخطأت انتقدتها علناً، وكانت كلماتي قاسية. مع ذلك لم أجد يوماً دليلاً مقنعاً في موضوع المال أضيفه الى ما عندي من اعتراضات على أداء أبو عمار السياسي، وبعض مواقفه العربية والدولية الخاطئة. ربما كان الخطأ الوحيد لياسر عرفات في موضوع المال انه"دقة قديمة"فهو استعمل المال للسيطرة وضمان الولاء، وكان يفضل النقد الكاش، ولم يفهم ان العالم أصبح الكترونياً في كل شيء، خصوصاً في التحويلات المالية. ولولا ضغط الدول المانحة والبنك الدولي لكان أبو عمار بقي حتى آخر يوم يدفع المرتبات نقداً، ومن يده الى أيدي رجال الأمن وغيرهم، فهذا ما كان يعرف صغيراً، ولم يتغير عندما تغير العالم. وأقدر أن بعض الذين اتهموا أبو عمار بإخفاء الملايين والبلايين فعلوا ذلك عن حسن نية، وقد صدقوا ان هناك مبالغ هائلة مختفية. غير أنني لا أصدق ان اسرائيل أو الولاياتالمتحدة لا تعرفان الحقيقة، وهما تسجلان أنفاس أبو عمار وكل القادة الفلسطينيين، وأتهم اسرائيل بأنها وراء ترويج كثير من الكذب المتعمد عن الموضوع. الولاياتالمتحدة كانت أقل الدول تبرعاً للفلسطينيين، فهي لم تدفع عُشر ما دفع الأوروبيون في وقت قدمت لإسرائيل باستمرار أكثر من ثلاثة بلايين دولار على شكل مساعدات سنوية، بينها مساعدات عسكرية استخدمت في قتل الفلسطينيين. وقد أعلنت ادارة بوش الأربعاء تبرعها بمبلغ 23.5 مليون دولار للسلطة الوطنية الفلسطينية. وأساس التبرع تسهيل اجراء انتخابات الرئاسة الفلسطينية. غير ان البيان الأميركي الرسمي أوضح ان المبلغ هو لإجراء الانتخابات وضمان الأمن ودفع المرتبات، وتطوير البنية التحتية في غزة... كل هذا ب23.5 مليون دولار. وأشعر لو أن المبلغ"ميّه مصلاية"كما يقول اللبنانيون، أي ماء صلّى عليه السيد المسيح، لما كفى لكل هذا أو بعضه.