بين غياب وآخر يظهر مدحت صالح فجأة ليذكّرنا أنّه فنّان موهوب جداً: حفلة في"دار الأوبرا"يستعيد خلالها قدراته الطربية الرفيعة، أغنية في فيلم "حبيبي يا عاشق"؟ بطولة عمل استعراضي يسقط فيه الاستعراض وينجح هو فوازير"فرح فرح"؟ وأخيراً أغنية شارة مسلسل"عباس الأبيض"التي راجت في الشارع العربي بعد طول غياب لنجاح أغاني المسلسلات. يذكّرنا أنّه استثنائي لكنه يعود ليختفي. لا شكّ في أن لشؤونه الشخصية علاقة بهذا، فقد ارتبط اسمه بسلسلة من المشكلات والدعاوى القضائية والإشاعات أفسدت على حياته المهنية استقرارها وترقّيها. أما العائق الأكبر فكان التأشيرة الاسرائيلية التي تسم جواز سفره بعد دخوله إلى الأراضي المحتلة. يعيد أداء مدحت صالح أغنية مسلسل"عباس الأبيض"إلى أذهاننا صورة المطرب الموهوب الذي لمع في أغنية"كوكب تاني"وجاب بها"الكوكب الأول"مثبّتاً قدميه فوق الأرض المصرية الخصبة بالمواهب والكفاءات. لكن المستقبل اللامع الذي كنا نتوقّعه لصالح لم يأتِ. فبعد انطلاقته المبشّرة مع ألحان محمد سلطان لأغنيتين طويلتين "زي ما قالوا عينيك"،"حاولت أبعد"، ثم اكتشاف الرائد فهمي عبدالحميد لموهبته الإستعراضية بطولة فوازير"الدنيا فنون"أواخر الثمانينات ونجاح مسرحيته"المهر"على المسرح القومي، ونجاح أغاني"السهرة تحلى"، و"ننسى"... مرحلة حساسة بعد كلّ هذا لا نجد اسم مدحت ساطعاً في الساحة الغنائية اليوم أو الاستعراضية أو التمثيلية، على رغم أنه يبرع في كل منها، فهو كآخرين من أبناء جيله محمد الحلو، علي الحجار، محمد ثروت، ايمان البحر درويش غير قادرين على التأقلم مع متغيّرات الواقع الموسيقي الحالي، الذي لا يتقاطع مع الواقع الذي انطلقوا منه منذ عقدين. لم يفعل مدحت صالح كمحمد منير الذي نجا من الدوامة بالتزامه الفني بالتراث النوبي، أو كما تحايل هاني شاكر الأكبر سناً بالحفاظ على ايقاع واحد يتطوّر ببطء لكن يثابر على الشريحة نفسها من المستمعين. كانت مشكلة مدحت صالح وجيله أنهم أتوا في مرحلة حساسة من تاريخ الغناء العربي، وهي فترة الصمت التي خيّمت إثر وفاة عبدالحليم حافظ. بدت الساحة الغنائية أواخر السبعينات وحتى عقد كامل شبه خالية من سيّد يحتلّها. لم يكن لأي مطرب أن يأخذ المكان الشاغر الذي تركه حليم من دون أن يتركه حقاً. لا محرّم فؤاد المخضرم ولا هاني شاكر الصاعد بموهبة واعدة. عُرف أن حليم لن يُخلف، لكن كلّ موهبة مصرية كانت تظهر بعد وفاته كان يُبحث فيها عنه. مكتشفو مدحت صالح ذهبوا إلى الشاعر محمد حمزة وطلبوا منه أن يكتب له أغنية كأغاني حليم! فكان أوعى منهم وقال إنه سيكتب له أغنية جميلة كصوته، لكن ليست كأغاني حليم، فكانت أغنية"حكاية ياسين وبهية". معاناة الشباب المصري بجسده الهزيل وحساسية صوته المفرطة كان مدحت الأقرب إلى صورة حليم فأنعش الآمال باستكمال مدرسته، وهو، بأغانيه الأولى قاربها ومرّ بمقاعدها، لكنه أكمل في طريقه الخاصة، التي تكلّمت عن معاناة الشباب المصري في ذروة ضياعه رافضك يازماني يامكاني، عايز أعيش في كوكب تاني: مكبوتة فقلبي أحلام محصورة... وسط الناس والزحمة تاه الاحساس والرحمة، ضاع مني سلامي تاه حتى كلامي، كذّاب يا زماني وفي أخرى رسمت قلب بألف جناح وفضلت طاير بيه في الكون، ما أعرفش ليه شدّتني رياح ورجعت تاني أعيش مسجون. يمكن عشان كان حلم بعيد، إن الإيدين تتوحّد إيد، إن الأمان يملا المواعيد، وإن العيون من الخوف ترتاح. لكن موجة أخرى كانت ترتفع في الضفة المقابلة، عرفت لاحقاً بالموجة الشبابية، على رأسها عمرو دياب بأغنية"ميّال"التي كانت قنبلة من حيث سرعة الإيقاع، وبعدها قنبلة"لولاكي"لعلي حميدة التي أثبتت أن ذائقة الجمهور العربي في مأزق. لم يملك صالح ورفاقه شيئاً أمام هذا المأزق بل كانوا أول ضحاياه، ولم ينجحوا في منافسة"الشبابيين"ذوي الصرعات، بل استسلموا لشبه الإعتزال أو مجاراة الصرعة، كما فعل صالح في أغانيه الأخيرة، فبدا غريباً عن نفسه وعن مواكبيه. في أحد ألبوماته الأخيرة،"وعدي"مثلاً، لا نعثر على مدحت الحقيقي إلا في أغنية واحدة اسمها"دوّر حتلقاني". لكأن كاتب الأغنية يقول لمدحت أن يبحث عن نفسه، أن يستعيد أرشيفه، أن يعيد الإستماع إلى أغانيه التي نسيها، فهو إن كان يذكرها لعرف إلى أين يمضي. إلى أحلام جيل أحبّه وحلم معه بكوكب ثانٍ، بقلب له ألف جناح، بشراع وشموع، بقضية هي الحبّ المطلق المجنون نكون فيها أو لا نكون... كما غنّى مدحت يوماً، كما غنّينا معه، فعلقت أغانيه في حناجرنا كطعم مياه النيل الذي لا يُنسى.