لقد قيل الكثير حتى الآن عن مستقبل التطور الاقتصادي والاجتماعي في العالم خلال العقود القليلة المقبلة، لكن قضية الزراعة والغذاء لم تأخذ حقها في هذا الجدل. ويظهر ان منظمة الأغذية والزراعة فاو، التابعة للأمم المتحدة ومقرها روما، قد أدركت هذا النقص بإصدارها قبل فترة وجيزة دراسة تعتبر بالغة الاهمية تتعلق بمستقبل الزراعة والغذاء في العالم وخصوصاً النامي منه. ومن الواضح ان قضية الزراعة والغذاء لم تعد قضية تقنية وحسب ناجمة عن عدم الاستعمال الصحيح والاستغلال الكافي للتقنية الزراعية وانما هي ايضاً قضية ذات ابعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وبالتالي سياسية. السكان والتغذية من المنتظر ان يزداد عدد السكان في العالم من حوالى 6.3 بليون نسمة عام 2003 الى حوالى 7.2 بليون نسمة سنة 2015 وحوالى 9.3 بليون نسمة سنة 2050 وذلك حسب قاعدة البيانات الدولية في المكتب الاقليمي لتعداد السكان. ومع هذا التطور، فان حصة الدول النامية حيث احتسبت الصين الشعبية كواحدة منها ستزداد من 81 الى 83 والى 86 في المئة على التوالي. وعلى رغم التحفظات المعتادة على هذا النوع من التوقعات، الا أن الاكيد هو ان الحاجة الى الغذاء ستزداد خلال العقود القليلة المقبلة بمعدلات اسرع من معدلات الزيادة في السكان، والتي من المتوقع ان تبقى تتركز في الدول النامية، خصوصاً تلك التي تعاني اصلاً نقصاً في الغذاء ولا تتجاوز قيمة اجمالي الناتج المحلي للفرد الواحد فيها 400 دولار في السنة. ويبين الجدول رقم 1 ان معدل الزيادة في السكان للدول النامية كمجموع وان كان سينخفض من 3.6 في المئة خلال الفترة ما بين 2003 الى 2015، والى 3.4 في المئة خلال الفترة ما بين 2015 الى 2050، الا ان هذا المعدل سيبقى اعلى من مثيله في الزيادة في اجمالي الناتج المحلي للدول النامية كمجموع والمقدّر له، حسب برنامج الغذاء العالمي، ان يراوح ما بين 2.5 الى 3 في المئة على الاكثر خلال الحقبة نفسها من الزمن. على اي حال، فإن افريقيا جنوب الصحراء هي المنطقة الوحيدة في العالم التي من المتوقع ان تسجل ازدياداً في عدد السكان وذلك من 6.4 في المئة الى 8.8 في المئة، ويليها مع الاسف الدول العربية التي ان كان معدل الزيادة في السكان سينخفض من 5.1 في المئة الى 4.2 في المئة في الفترة نفسها، الا ان هذه الزيادة ستبقى اعلى من مثيلاتها في اي من المناطق الاخرى في العالم النامي. ومقارنة بمعدل الزيادة في عدد السكان في الدول النامية، فان معدل الزيادة في عدد السكان في الدول المتقدمة كمجموعة سيكون سالباً، اذ سينخفض من 0.3 في المئة الى 0.04 في المئة. في ضوء هذا التطور السكاني في الدول النامية فانه من المتوقع حسب برنامج الغذاء العالمي ان يزداد معدل الطلب على الغذاء في هذه الدول سنة 2015 بما يراوح بين 60 و70 في المئة فوق معدله لعام 2003 وان يصل الى ثلاثة اضعاف عند منتصف القرن، مع ما سيتأتى عن ذلك من زيادة في حدة المجاعة وسوء التغذية في هذه الدول. الوضع المنتظر في ضوء هذه الزيادات السكانية والاوضاع الاقتصادية المتوقعة للدول النامية، يود المرء ان يتساءل عن الوضع الغذائي المنتظر لهذه الدول. من الواضح حتى الآن ان هناك ثلاثة سيناريوهات لهذا الوضع. السيناريو الاول يدل على استمرار في النمو السكاني والزراعي كما الحال حتى الآن، اي زيادة مستمرة واعلى لعدد السكان منها للانتاج الزراعي، بمعنى زيادة في النقص الغذائي وبالتالي في الافواه الجائعة. السيناريو الثاني يعتبر اكثر تفاؤلاً من الاول، اذ يفترض زيادة حقيقية في النمو الاقتصادي والانتاج الزراعي بمعدل 3.7 في المئة حتى سنة 2015 وهو رقم اعلى بقليل من معدل الزيادة في عدد السكان وهي 3.6 في المئة. اما السيناريو الثالث فهو اقل تفاؤلاً من الاثنين، اذ يفترض زيادة في النمو الاقتصادي والانتاج الزراعي للدول النامية كمجموع بمعدل لا يتجاوز 3.1 في المئة و3.2 في المئة لكل منهما على التوالي، وكلاهما ادنى من معدل الزيادة المتوقعة في عدد السكان، الامر الذي سيؤدي الى ازمة غذاء واستمرار الاوضاع المعهودة خلال الأعوام الماضية، حيث لم يطرأ اي تحسن يذكر في الوضع الغذائي في الدول النامية كمجموع وذلك على رغم ارتفاع معدل الزيادة في الانتاج الزراعي في هذه الدول كمجموع بنسبة 2.5 في المئة سنوياً. وكما يبدو فان تطور السيناريو الاول سيكون مفزعاً لو حصل، ذلك انه في سنة 2015 يقدر ان يكون معدل حصة الفرد الواحد في الدول النامية كمجموع من السعرات الحرارية كالوري اقل بنحو مئة في المئة منه لمثيله في الدول المتقدمة. اضافة الى هذا فان تبعية الدول النامية للدول المتقدمة في مجال الحصول على الغذاء ستزداد وتزداد معها التبعية السياسية، كذلك سيزداد عدد الجوعى من 840 مليون نسمة عام 2003 الى حوالى 2.6 بليون نسمة سنة 2015. تتجه الانظار الآن وبشكل جدي الى السعي لتحقيق السيناريو الثاني، الذي يتسم ببعض الامل في تخفيف حدة المشكل الغذائي، اذ يفترض في هذا السيناريو زيادة في النمو الاقتصادي والانتاج الزراعي اعلى من تلك في عدد السكان، الامر الذي سيؤدي الى عدد الجوعى من 840 مليون نسمة عام 2003 الى 450 مليون نسمة سنة 2015، كما هو واضح في الجدول رقم 2. وكل هذا مشروط طبعاً بالاخذ بالتقنية الزراعية بشكل فعال ومؤثر اكثر من السابق وباعتماد برامج لتحديد او تنظيم النسل. لكن الشرط الاساسي لتحقيق السيناريو الثاني سيكون في زيادة الانتاج من الحبوب من ناحية، وفي زيادة تربية الماشية من ناحية اخرى. وهذا يعني في ما يخص الحبوب مثلاً زيادة استغلال الرقعة الصالحة للزراعة بمقدار الثلث على الاقل لتصل سنة 2015 الى نحو 90 في المئة في آسيا، حوالى 70 في المئة في البلدان العربية وحوالى 45 في المئة في كل من افريقيا جنوب الصحراء واميركا اللاتينية. اضافة الى هذا فانه لا بد من زيادة استعمال الاسمدة التي يعود اليها اكثر من 60 في المئة من الزيادة في الانتاج الزراعي ما بين عامي 1995 و2003. على اي حال، فان منظمة الاممالمتحدة للاغذية الزراعية ترى ضرورة استعمال حد ادنى من السماد مقداره 45 كلغ للهكتار الواحد من الارض للوصول الى النتائج المطلوبة. ان الزيادة في استغلال الرقعة الصالحة للزراعة وفي استعمال السماد تعني زيادة في حجم الاستثمارات الزراعية الى ثلاثة اضعاف مستواها الحالي وكذلك زيادة في حجم قيمة العوامل المادية للانتاج الى اكثر من خمسة اضعاف، وبالارقام فان قيمة هذه الاستثمارات باسعار عام 2000 ستصل سنة 2010 الى نحو 170 بليون دولار وفي سنة 2015 الى نحو 310 بلايين دولار. والمشكلة ان هذه مبالغ طائلة يصعب على الدول النامية وحدها ان تفي بها، وعليه فانه لا بد اذاً من الاعتماد على المساعدات الخارجية. غير ان خبرة الدول النامية في السابق عموماً بعدم ايفاء الدول المتقدمة بكامل وعودها نحوها، تضطر المرء الى تخفيف التفاؤل الموضوع في السيناريو الثاني. لكن منظمة الاممالمتحدة للاغذية والزراعة ترى حاجة ماسة لهذه الاستثمارات اذا ما اريد للوضع الغذائي في الدول النامية ان يتحسن. وهذا يعني ضرورة اعادة ترتيب أولويات التنمية في هذه الدول بحيث يتقدم القطاع الزراعي على غيره من القطاعات الاقتصادية. إلا ان تحقيق هذه السياسة يبقى - كما هو معتقد - يرتبط بتحقيق اصلاح زراعي وتوزيع عادل للأرض الزراعية يشجع المبادرة الفردية المصحوبة فقط بإرشاد لا غير من قبل الدولة، كما الحال في اليابان وكوريا الجنوبية، حيث ستؤدي مثل هذه السياسة الى زيادة"معقولة"أو"مرضية"في الانتاج الزراعي، يقدر لها ان تكون في حدود 10 في المئة في باكستان، و15 في المئة في كل من المغرب وكولومبيا، و28 في المئة في اندونيسيا، و30 في المئة في كل من سورية وتونس، واكثر من 80 في المئة في البرازيل وتشيلي والارجنتين. في ضوء هذا، فإن القول الدارج بأن الاصلاح الزراعي يؤدي الى نقص في الانتاجية وبالتالي في الانتاج الزراعي هو قول يفتقر الى الجدية، ذلك ان توزيعاً عادلاً واستغلالاً أفضل للأرض وعوامل الانتاج الأخرى يؤدي الى زيادة في الانتاجية والانتاج الز راعي، خصوصاً إذا ما ارتبط هذا الاصلاح بتشجيع المبادرة الفردية. لكن يجب القول ايضاً، أن ايجابيات الاصلاح الزراعي لا يمكن - مع الأسف - تحقيقها كلها في كل البلدان النامية. ففي مصر وبنغلاديش مثلاً، حيث رقعة الأرض الصالحة للزراعة محدودة والزيادة الهائلة في السكان لا تقف عند حد، فإن أي اصلاح زراعي ذي نتائج محدودة. بينما سيؤدي هذا الاصلاح لو طبق فقط على 50 في المئة من الأراضي في الهند وسريلانكا واندونيسيا الى تخفيض حدة الفقر أي عدد الأفواه الجائعة بحوالى 30 في المئة واكثر من السكان في هذه البلدان. الأسعار الزراعية إضافة الى هذا، فإن ايجابيات الاصلاح الزراعي حتى في دول كالهندوالبرازيل مثلاً، لن تتحقق كما يجب اذا لم تعط لأسعار المحاصيل الزراعية أهمية اكبر من السابق، بمعنى اذا لم تخفف القيود الحكومية على حركة هذه الأسعار وتترك هذه الحركة لميكانيكية العرض والطلب في الأسواق، ذلك ان"الحرية السعرية"هي عامل مهم جداً في تحديد مقدار الحافز الانتاجي للمزارعين، وبالتالي لاستمرار بقاءهم في الريف وعدم هجرتهم الى المدن، مع ما يترتب على ذلك من مشاكل اقتصادية واجتماعية ومشاكل خدمات وغيرها في هذه التجمعات السكنية الكبيرة. التبعية الزراعية فيما يتعلق بدور الدول النامية تجاه"مسؤولياتها الزراعية"، فإنه لا بد لهذه الدول من ان تضافر جهودها لزيادة الانتاج الزراعي وذلك على الأقل لتقليل الزيادة في زيادة حدة تبعيتها للدول المتقدمة، اذ من المنتظر ان تزداد وارداتها الزراعية من هذه الدول، خصوصاً من الولاياتالمتحدة واوروبا الغربية، من نحو 230 مليون طن عام 2003 الى نحو 420 مليون طن سنة 2015، اذا بقي كل شيء على حاله كما هو الوضع الآن. وهذا يعني ان دور الدول المتقدمة في قضية الغذاء في العالم سيبقى دوراً رئيسياً في المستقبل ايضاً، وهو ما يزيد من تبعية الدول النامية لهذه الدول ويقلص من سيادتها في صنع القرار الوطني المستقل. في ضوء هذا التطور أو ثمناً لهذا الدور، فإنه ينتظر ان تزيد الدول المتقدمة انتاجها الزراعي خصوصاً من الحبوب لتغطية الحاجة المتزايدة للدول النامية. والواضح ان هناك خمس دول فقط في العالم، وهي الولاياتالمتحدة وكندا واستراليا وفرنسا والارجنتين - حيث تعتبر الأخيرة دولة نامية - تستطيع ان تقوم بهذا الدور، حيث من المفترض - في ضوء الحاجة المتزايدة للدول النامية ان تزيد انتاجها من الحبوب بمقدار خمسة الى 55 في المئة حتى سنة 2015، ليصل هذا الانتاج الى نحو 850 مليون طن، وهي الكمية التي يعتقد انها ستفي بالحاجة المتزايدة للدول النامية. في ضوء ما تقدم، فإن الظاهر ان المستقبل الزراعي للدول النامية، خصوصاً الفقيرة منها، سيكون غير مرض، حيث معدل الزيادة السكانية سيبقى اعلى منه لتلك من الانتاج الزراعي، وذلك طالما بقيت مشكلة الزيادة في النسل على حالها من دون حل جذري. وهذا يعني استمرارالزيادة في عدد الأفواه الجائعة مع ما يترتب على ذلك من عواقب اقتصادية واجتماعية وسياسية وخيمة. فيما يخص دول العالم العربي، فإنه على رغم احتمال نقصان عدد الجوعى من حوالى 45 مليون عام 2003 الى حوالى 30 مليون سنة 2015 جدول رقم 2، إلا ان توفير الغذاء للعدد الضخم المتزايد من السكان سيبقى - غالب الظن - يعتمد على الواردات الزراعية من الغرب، وهو ما سيزيد ايضاً في تبعية هذه الدول للغرب. هذا إضافة الى جعلها عرضة للابتزاز السياسي من قبل الغرب، وذلك بتحييد النفط العربي كسلاح مقابل استعمال صادراته الزراعية للعرب كسلاح مضاد أقوى واكبر تأثيراً من سلاح النفط. اقتصادي مصرفي مدير سابق لبرنامج النقد والمال للجنة الاممالمتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا. الزيادة في عدد السكان في العالم حسب المناطق نسبة مئوية الفترة من 2003 - 2015 الفترة من 2015 - 2050 الدول النامية كمجموعة 3.6 3.4 افريقيا جنوب الصحراء 6.4 8.8 الدول العربية 5.1 4.2 آسيا 2.9 2.0 اميركا اللاتينية 3.3 2.3 الدول المتقدمة 0.3 0.04 المصدر : قاعدة البيانات الدولية في المكتب الاميركي لتعداد السكان سنة 2004 الجوعى في العالم مليون نسمة 2003 2015 افريقيا جنوب الصحراء 150 75 الدول العربية 45 30 أسيا 535 260 اميركا اللاتينية 110 85 المجموع 840 450 المصدر: برنامج الغذاء العالمي