قد يصح القول إنه مع اعتداءات 11 أيلول سبتمبر 2001, دخلت الولاياتالمتحدة, ومعها العالم أجمع, القرن الجديد أو الألفية الثالثة, مع ما يستتبع هذا الدخول الرمزي من تبديلات في المفاهيم وأساليب العمل. ويشكل هذا الدخول شبه قطيعة بين الحقبة السابقة التي كان أبرز معالمها الثنائية القطبية ومنظومة الأمن العالمي القائمة على توازن القوى والتهديد الضمني بالتدمير المتبادل, والنظام السياسي الدولي القائم على حصرية حكومات الدول في استعمال القوة, على الأقل من حيث المبدأ والمبتغى, وبين الواقع الجديد الذي شهد تبوأ الولاياتالمتحدة لمقامها بوصفها القوة العظمى الوحيدة فعلاً وممارسة, وقرارها اعتماد الاستباقية والوقائية في سعيها إلى ضمان أمنها, على خلفية سقوط المعادلات السابقة مع بروز حركات عالمية لا تخضع لإرادة أي حكومة, ولا تنصاع لمفهوم تجنب التدمير المتبادل, وتعتمد الحرب اللامتوازية والإرهاب كتعويض عن التفاوت الخطير في توازن القوى. لكن قد يصح القول أيضاً إن المحيط العربي, وهو الذي أنتج هذه الحركات العالمية الإسلامية الجهادية تحديداً التي شكلت العامل الفاعل في الدفع للدخول إلى الحقبة الجديدة مقابل سقوط المنظومة الاشتراكية الذي شكل العامل الممكّن, لا يزال يبدي التباطؤ والممانعة إزاء هذا الدخول. وأسباب هذا الرفض أو التخلف عديدة, أهمها دون شك الاستقرار المستمر منذ عقود في النظام السياسي العربي, والذي تمكن من تجاوز تهديدات وتحديات مختلفة من الحروب الأهلية إلى حركات التمرد وصولاً إلى رحيل رؤساء وملوك مع نجاح في تكريس تواصل توارثي في الحكم وإن شكلي. بل يبدو غالباً أن القناعة المستتبة في النظام السياسي العربي, رسمياً كما ثقافياً, هي أنه لا حقبة جديدة ولا تبدل جذري, بل حالة شاذة عائدة إلى حدث غير اعتيادي أي ضربة أيلول سرعان ما تنحسر ويعود الاستقرار الدولي إلى ما كان عليه. ومن هنا الرهان على خسارة بوش في الانتخابات الرئاسية تأكيداً لطارئية مسلكه الهجومي في أعقاب الحدث, والحديث عن أطراف وتكتلات خارج الولاياتالمتحدة يمكن الركون إليها لموازنة العدائية الأميركية المفترضة روسيا, الصين, الاتحاد الأ وروبي, ومن هنا التمني جهاراً تارة وسراً تارة أخرى بفشل "المغامرة" الأميركية في العراق مع إدراج هذه المغامرة في إطار المصلحة الآنية الإسرائيلية أو الاقتصادية الأميركية, أي مع إبعادها عن أية قراءة تقر بتبدل نوعي جذري في النهج الأميركي وبالتالي في الواقع العالمي. وقد تكون الخطوة السورية في التمديد القسري المشرعن لولاية رئيس الجمهورية اللبنانية أبرز نموذج على الإصرار على التعامي عن تبدل الأحوال والمعادلات. وفما جاءت الانتخابات الرئاسية الأميركية كما إسقاط نظام صدام, كما حرب أفغانستان كأرضية خلفية للحركة الجهادية العالمية لتؤكد خطأ القناعة العربية, فإن الإنكار ما زال مستمراً, والإصرار ما زال على ترقب من باب التمني لفشل أميركي ذريع يعيد أميركا إلى مكانتها "الطبيعية". وفيما الرجاء والخيال يشعلان الدوائر العربية, تنشغل نظيراتها الأميركية بالإعداد لخطوات إقدامية تستهدف المحيط العربي, البعض منها متقن ومدروس والبعض الآخر يقارب الاعتباطية, انطلاقاً من قراءتها للمصلحة الوطنية الأميركية, وينشغل الناشطون المؤيدون لإسرائيل وغيرهم بالعمل على التوفيق بين هذه المصلحة ومصالح الجهات التي تعنيهم وتخصهم, وفق إقصاء ذاتي عربي شبه كامل, مع توق لدى البعض إلى أن يرى هذا المخلص أو ذاك ضمن الحكومة الأميركية صواب الموقف العربي فيتخذ المواقف "الشجاعة". فبالأمس كان المخلص العتيد كولن باول, رغم أن الرجل لم يقدم يوماً ما يبرر الأمل فيه, واليوم خليفته في المنصب والرجاء كوندوليزا رايس, رغم انضوائها الصارم والقاطع في النهج الأميركي الجديد. فوز بوش حصل. وفوزه اليوم, كما فوزه عام 2000، يأتي تأكيداً على متانة النظام السياسي الداخلي الأميركي. ورغم التجاوزات والسوابق السيئة التي ارتكبتها حكومته وأدخلتها في ممارستها, فإن قدرة النظام السياسي الأميركي على التصحيح الذاتي, بالوسائل القضائية والتشريعية والتنفيذية تبقى قائمة وحاصلة فعلاً. فالرهان على انتكاسة أميركية في الداخل والخارج, وعودة نظامية عربية إلى الحقبة الماضية لا مبرر له. وإذا كان ثمن رهان الأمس على خروج بوش المزيد من التبديد في قدرة الأطراف العربية المختلفة على المناورة والمساومة, فإن رهاناً آخر جديداً على انكسار "المحافظين الجدد" داخل الحكومة الأميركية هو، بدوره، دافع لمزيد من الأخطاء في التقدير والممارسة. فالنهج الجديد ليس حكراً على "المحافظين الجدد" والذين تحشر القراءات العربية في خانتهم تعسفاً من ليس منهم غالباً، في سعي مضلل إلى اختزال إسرائيلي أو يهودي للدفع إلى النهج الجديد. وإسقاط النظام العراقي حصل. وكما أي حدث, ليس هذا الإسقاط وليد خطة واحدة بل نتيجة تضافر خطط وتقاطع مصالح وتلاقي أهداف. لكنه في الحصيلة يندرج في صلب النهج الجديد, بل يوطده ويجعل من الولاياتالمتحدة قوة فاعلة على الأرض في قلب المحيط العربي. ورغم التخبط الأميركي ميدانياً وغياب القرار الواضح سياسياً, ورغم قصور الحكومة العراقية الجديدة وتقصيرها, فإن الخصم, أي التحالف البعثي الجهادي, غير قادر إلا على تأخير تحقيق مشروع العراق الجدي. فإذا لم تكن ملامح هذا المشروع قد اكتملت, فإن الشمولية والصنمية والتوريط والترهيب التي كانت دعائم النظام السابق تعرضت لتقويض تصعب معه العودة إليها إجمالاً, وتستحيل معه عودة النظام السابق تحديداً. والدفع الثابت اليوم لدى الحكومة الأميركية, في إطار عزمها على الاستباقية, هو في اتجاه "الإصلاح" في العالم العربي. ومفهوم الإصلاح في السياق العربي, من حيث المبدأ كما التفاصيل, قد لا يكون ناضجاً ومتضحاً إلا من حيث تنفيسه لمقومات الخطر والتي قد تأتي بالأذى على أميركا. وليس في موازين القوى العالمية, ولا في التجربة التاريخية, ولا في السوابق والشواهد الحالية ما يؤذن بأن هذا "الإصلاح" العربي أميركياً لن يحصل. ومن جهة أخرى, حتى إذا كانت دعوة الإصلاح التي تطرحها واشنطن على الحكومات والمجتمعات العربية كلمة حق يراد بها باطل, فهي تبقى كلمة حق بالفعل. فالإصلاح كان ولا يزال مطلباً سياسياً واجتماعياً عربياً, وإن تفاوت عمق المطالبة وصدقها بين مُطالب وآخر. فإما أن يكون هذا الإصلاح انطلاقاً من خطة عمل تضع المصلحة العربية العامة كما الخاصة بكل مجتمع عربي في صدرها, أو أن يبقى مقتصراً على المصلحة الأميركية وغيرها. والهم السياسي العربي يبقى ذا شقين, أحدهما عام جوهره القضية الفلسطينية وكذلك المسألة العراقية والوضع في السودان, ومن ثم معوقات التواصل العربي, والآخر خاص عائد خلاصته ضرورات الإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي. وإذا كان بعض هدف دعوة الإصلاح الأميركية تبديد الشق العام في الهم السياسي العربي, وتحديداً فرز الموضوع الفلسطيني, فإن هذا الموضوع كان ولا يزال المبرر الأول لقمع أي مطالبة جادة بإصلاح داخلي في مختلف الدول العربية. والواقع أنه بغض النظر عن النوايا الحسنة لدى بعض المسؤولين العرب, فإن طبيعة الأنظمة تقدم نفسها على أنها على قدر كبير من الاستقرار, أي أن لا حاجة نظامية للإصلاح والتغيير. وهذا ما يجعل الدفع باتجاه الإصلاح غير محبذ ومقصوراً على المبادرات غير الجوهرية التي سرعان ما تنكفئ مع انحسار عزم القائمين عليها أو ضغط المطالبين بها من الخارج. وفيما الحاجة النظامية مفقودة, فإن الحاجة الاجتماعية قائمة إلى إصلاح يحقق النظام السياسي السليم القائم على الحرية المسؤولة والمواطنة وخادمية الحاكم وفصل السلطات ومشاركة الفرد في صنع القرار عبر الانتخابات والتمثيلية الصادقة والشفافية والتداولية في الحكم والتنافس البناء, بالإضافة إلى الأوجه التصحيحية من مكافحة الفساد وضمان عدم تسييس القوى المسلحة, وصولاً إلى الانتقال من دولة الوصاية إلى دولة العناية. والمسؤولية للمبادرة والإقدام على وضع خطة عمل عربية لاستيعاب الإصرار الأميركي على الإصلاح وضمان عدم توظيفه للإضرار بالمصالح العربية كما لعدم تبديده وقصره على الخطوات التجميلية، تقع أولاً على عاتق المجتمع المدني العربي والثقافة العربية. والتحدي الأول أمام الجانب العربي التفاعل مع واقع أن ما جرى ويجري ليس مرحلة مؤقتة بل حقبة جديدة.