يبدو سليم الجاي مثل عازف منفرد في جوقة الأدب العربي المكتوب بالفرنسية: مغربي يكتب بلغة رامبو لكنه لا يرى مستقبلاً للأدب العربي خارج لسان المتنبي. نشر اكثر من عشرين كتاباً في حقول الرواية والنقد والبيوغرافيا والمعارضة الأدبية، بيد انه يظل شبه مجهول في العالم العربي! وعلى رغم ان كتبه صدرت عن كبريات دور النشر الباريسية "سوي"، "دونويل" "لاديفيرانس"... فإن شهرته لا تبلغ شهرة كتاب آخرين امثال الطاهر بن جلون وأمين معلوف وعبداللطيف اللعبي وعبدالوهاب المؤدب وفؤاد العروي... غير ان الجاي لا يهتم كثيراً لذلك: "لقد اعتبرت دائماً ان الشهرة التي يحظى بها زملائي العرب ممن يكتبون بالفرنسية هي مجرد وهم في الرؤية وخطأ في التقدير. أفهم ان نتحدث عن شهرة او انتشار روائيين وقصاصين وشعراء يكتبون بالعربية او حتى بالأمازيغية او الكردية، لكن الذين يكتبون بالفرنسية يظل دائماً وقعهم هامشياً على القارئ العربي وبالتالي تظل شهرتهم سطحية". سليم الجاي الذي ولد في باريس سنة 1951 من ام فرنسية وأب مغربي يتأسف اليوم لأنه لا يتقن العربية ولا يستطيع ان يكتب بها. لكنه لا يكتفي بإطلاق صرخات كسولة مثلما فعلت الكاتبة الجزائرية ليلى الصبّار في آخر رواياتها "لا أتكلم لغة والدي" دار "جوليار" 2003، بل يبذل مجهوداً من اجل تعلم لغة ابيه. ربما لأن هذا الأب، الذي تربطه به علاقة مركّبة افرد لها كتاباً لافتاً، ليس إلا ادريس الجاي احد علامات الشعر العربي الكلاسيكي في المغرب خلال القرن العشرين. في ذلك الكتاب الأوتوبيوغرافي الذي يحمل عنوان "بورتريه الوالد شاعراً للبلاط" الصادر سنة 1985 عن دار "دونويل"، يصفي الجاي حساباته مع اب سكير ومع وطن جاحد. الأب ضائع بين الكؤوس وقصائد المديح، والوطن يأكل اولاده مثل قطة حمقاء، وسليم يلملم بقايا صوته ليصرخ ويحتج. امضى سليم الجاي طفولته ومراهقته في الرباط. وعلى إيقاع ما يسميه المغاربة ب"سنوات الجمر"، غادرها من جديد سنة 1973 الى مسقط رأسه باريس من دون ان يلتفت الى الوراء ابداً. يقول: "منذ ثلاثين سنة وأنا في باريس، لكن علاقتي مع هذه المدينة ليست بالضبط علاقة باريسي بمدينته لأنني كل صباح قبل ان أقرأ "لوموند" و"ليبيراسيون" جريدتان فرنسيتان لا بد من ان أقرأ يومية مغربية، مما يعني ان قدمي في باريس وقلبي موجود في الرباط". سنة 1979 بدأ الجاي مشواره الأدبي في كتاب لاذع ضد ظاهرة الكاتب الفرنسي غي دي كار الذي اشتهر بروايات واسعة الانتشار مملوءة بالابتذال والعنصرية. هكذا دشّن كتاب "ملاحظات سريرية مختصرة حول حال غي دي كار" ميلاد كاتب حاد المزاج، يكتب بمكنسة ولا يهادن الرداءة. وعلى النهج نفسه سيصدر سنة 1982 معارضة ادبية لرواية "الثري" للكاتبة الفرنسية ايرين فران. وكاحتجاج ساخر على شهرة غير مستحقة، وقّع سليم الجاي كتابه باسم ايرين روفران وسمّاها "ستكون ثريا يا ولدي" دار "روبتور" 1982. السخرية ذاتها تقطر من معارضته لكاتبة اميركية تدعى ألكنسدرا ريبلاي كتبت رواية قدمتها كتتمة للتحفة الأدبية "ذهب مع الريح" ولاقت نجاحاً واسعاً. هذه المرة وقع احتجاجه باسم ألكسندرا كوادريبلاي وعنونه: "ستارليت في مربط الخيل" منشورات ايلول/سبتمبر 1992. ولكن من يصغي الى احتجاجات سليم الجاي؟ كما لو كان يصرخ في بئر من ورق... لا يهم، لقد تعود ان يقف وحده ضد التيار، لدرجة انه اصدر في الثمانينات مجلة ادبية اسبوعية بإمكانات شبه معدمة. كان يحرر موادها ويطبعها وينسخها ويوزعها وحده ليكتب فيها احتجاجه ضد العالم. وحين يسأل عن كل تلك المجهودات العبثية يرد دوماً: "إنها اشبه بإضراب عن الطعام احتجاجاً على الرداءة"! مارس سليم الجاي الصحافة والنقد الأدبي منذ نعومة قلمه. بدأ في الإذاعة وعلى اعمدة الجرائد الفرنكوفونية المغربية وهو لمّا يتجاوز السادسة عشرة من عمره، وكتب في كبريات الجرائد والمجلات الفرنسية ماغازين ليتيرير، لوفيغارو، لوكوتيديان دوبّاري،... الخ وما زال وفياً للنقد الأدبي في مجلة "قنطرة" التي يصدرها معهد العالم العربي. فأر مكتبات حقيقي، يلتهم كل ما تقذفه المطابع من كتب في شتى الحقول المعرفية، ويضع نياشين حبر على كل كتاب احبه. سنة 1981 اصدر كتاباً عنوانه "مجنون القراءة والأربعون رواية"، خصصه للروايات الأربعين الأولى التي صدرت في خريف تلك السنة. وأتبعه ب"روايات مغاربية" سنة 1983 ثم "روايات العالم الزنجي" سنة 1984، وكلها كتب يود من خلالها اقتسام متعة القراءة مع الآخرين والتعريف بقارات ادبية قصية. يقرأ سليم الجاي ما يكتبه الآخرون بحب ويعرف كيف يقول دهشته وإعجابه، ولذلك يظل من اهم من كتبوا البيوغرافيا بين زملائه الفرنكوفونيين. سنة 1982، افرد للكاتب الصحافي "برنار فران" مؤلفاً يتناول بالتحليل والاحتفاء اعماله الأدبية، وكتب "ادريس، ميشال تورنيي والآخرون" حول رواية "غوت دور" لميشال تورنيي عضو اكاديمية غونكور التي تتطرق للهجرة المغاربية في فرنسا. ثم اصدر "هل قرأتم هنري توما؟" وهو احتفال بهذا الروائي الفرنسي الكبير، صديق انطونان أرتو وصاحب رواية "ليلة لندن". مثلما خصص كتاباً بيوغرافياً للروائي "جان فروستيي" صاحب رواية "ميراث الريح". في كتاب "العصفور يعيش من ريشته" 1989، يحكي الجاي مغامرات كاتب فقير يعيش في باريس. ومن حفلة استقبال لتوقيع كتاب مروراً بافتتاح معرض او توزيع جائزة، نطالع حكايات ساخرة من قلب الحياة الأدبية الفرنسية في ثمانينات القرن الماضي. ويرسم لنا المشهد الأدبي بعين المعدة، في كتاب شيق تحت عنوان "الكتّاب في صحنهم" يتطرق فيه بإسهاب الى علاقة الكتّاب بالأكل. وفي "من جهة سان - جرمان - دي - بري" 1992، يقدّم لنا الحي الباريسي العريق الذي يؤمه الكتاب والفنانون في قلب الدائرة السادسة، مقاهيه ومطاعمه ومكتباته ودور النشر التي تملأه، وحكاياته مع الكتّاب والمثقفين... كل ذلك في وصف ادبي رشيق ولاذع. اما كتابه الأخير "لن تعبر المضيق" دار "ميل اي اين نوي"، 2001" فقد أفرده لظاهرة الهجرة السرية التي تخلف مئات الضحايا كل سنة، بين ضفتي المتوسط. وقد حقق الكتاب نجاحاً واسعاً واقتبست منه مسرحية تحمل العنوان ذاته "لن تعبر المضيق"، صرخة كاتب تماهى مع منبوذي العصر الحديث الهاربين نحو المجهول، أولئك البؤساء الذين يعيشون في الطوابق التحتية للعصر على هامش التاريخ والجغرافيا والاقتصاد. لغة الجاي راقية، لا تركن ابداً الى العبارات الجاهزة. تحس ان هناك انتقاء دقيقاً لكل عبارة، لكل جملة ولكل كلمة. وهو في ذلك يقترب من اسلوب الكاتب المغربي الراحل محمد خير الدين توفي سنة 1995، كان جان بول سارتر يسميه "خير الدين الطائر" وليس غريباً ألاّ يكفّ عن ترديد عبارة محمد ديب بصدده انه الأكبر بيننا". ولعل اللغة الأنيقة التي كتب بها "لن تعبر المضيق" هي ما يميز هذا الكتاب عن الأعمال الأدبية الكثيرة التي تناولت الموضوع ذاته. يقول الكاتب عن هذه التجربة: "لقد اخترت ان اتناول مأساة الهجرة السرية بلغة انيقة قد تبدو معقّدة احياناً، لغة الآخرين. اولئك الذين ينظرون بتعالٍ الى هؤلاء الضحايا، الذين يتحصنون داخل لغة معقدة لكي يفصلوا عالمهم عن عالم الغوغاء. لأنهم غير معنيين بمصائر المهاجرين السريين، اردت ان أدخل المأساة الى عقر لغتهم". من يقول كلاماً من هذا القبيل لا بد من ان يكون كاتباً مزعجاً. وسليم الجاي كاتب مزعج في اللغة وفي الحياة. ولعل ذلك سر تهميشه من اكثر من جهة ومؤسسة ووسيلة إعلام. في فرنسا كما في العالم العربي، يتحاشاه الكتّاب المزيفون ويخاف منه الناشرون المحترسون، لأن إحدى هواياته الأثيرة ألاّ يتسامح مع "المنافقين ومع الملفّقين"، كما يحلو له دائماً ان يردد بعربية مكسّرة، واثقة من مستقبلها على رغم كل شيء!