هل يمكن احداً ان يحصي عدد الأفلام التي كرسها الفن السابع للحديث عن الامبراطور الفرنسي نابوليون، بما في ذلك فيلم عميد السينما العربية يوسف شاهين "وداعاً بونابرت"؟ ليس الأمر سهلاً... طالما ان السينما، ومنذ سنواتها الأولى التفتت الى ذلك الزعيم الطموح الذي اتى من اللامكان، ليشغل الناس ويملأ الدنيا، غازياً، محرراً، قاتلاً مناضلاً، مفكراً في الوقت نفسه، ويحتل بلداناً اوروبية ومناطق شرقية عدة، بحيث لن يهزمه في نهاية الأمر سوى الشتاء الروسي وتكالب الإنكليز الذين ابداً ما استساغوا وجوده منذ وجد. لقد حققت السينما عن حياة نابوليون وسياساته ومغامراته عشرات الأفلام. بل ان واحداً من كبار فناني السينما، وهو الأميركي الذي نفى نفسه الى إنكلترا ستانلي كوبريك، رحل اواخر القرن العشرين وفي نفسه حسرة لأنه لم يستطع ابداً تحقيق حلمه حول فيلم عن نابوليون كان يريد تحقيقه. وربما لو حقق كوبريك فيلمه لوجدنا انفسنا امام شريط ينظر الى الامبراطور الفرنسي نظرة اخرى، لم ينظر إليه بها اي سينمائي آخر: النظرة الى حلم مجنون. آبيل غانس، احد كبار السينمائيين الفرنسيين خلال النصف الأول من القرن العشرين، حقق حلمه في فيلم عن نابوليون... كان يتطلع الى تحقيقه منذ اكتشف فن السينما يافعاً. لكن نظرة غانس الى نابوليون كانت شديدة الاختلاف عن نظرة كوبريك المحتملة: نظرة غانس كانت تاريخية استعراضية حاولت ان تستغل كل إمكانات الفن السابع التقنية في ذلك الحين. بل ان الرجل احدث تجديداً مدهشاً في ذلك المجال، اذ للمرة الأولى - وفي شكل ما، الأخيرة - في تاريخ الفن السابع، رأى ان من إجل إبراز عظمة حياة نابوليون وعظمة معاركه، يجب ان تكون الصورة عريضة في شكل استثنائي. ويومها، إذ لم يكن "السينما سكوب" و"شاشة 70 ملم" و"السينراما" قد اخترعت بعد، جعل غانس فيلمه يصور من طريق ثلاث كاميرات، ليعرض بعد ذلك من طريق ثلاث آلات عرض، مما ضاعف حجم الصورة ثلاث مرات عرضاً. طبعاً كانت الفكرة مدهشة. لكن النتيجة اتت احياناً مثيرة للضحك. ذلك ان العرض كان يحتاج تزامناً في عرض الصورة الثلاث المتكاملة، لم يتوافر... فكان تفاوت في اجزاء المشهد قلل من قدر نابوليون كثيراً. لكنه لم يقلل من قيمة الفيلم وأهميته التاريخية... حتى وإن كان - في الأصل - فيلماً صامتاً. علماً ان الفيلم بعدما عرض في مرحلة اولى صامتاً، اعيد عرضه، مع شيء من الاختصار في العام 1932، ولكن مع صوت وموسيقى مصاحبة مناسبة هذه المرة... ثم اتخذ شكله النهائي في العام 1955، إذ اضيفت إليه مشاهد جديدة وصار ناطقاً... وإن ظل يقدم دائماً عبر ثلاث شاشات متجاورة. وهذه النسخة الأخيرة هي التي تعرض على نطاق واسع في زمننا هذا. غير ان الفيلم كان يفترض به، في الأصل، ان يكون أطول مما نعرف بكثير... إذ ان آبيل غانس، كان يريد لفيلمه ان يتابع حياة الزعيم الفرنسي منذ مولده في بريان الكورسيكية الى رحيله في جزيرة القديسة هيلانة... وهكذا بعدما حقق فيلماً بلغ طوله 12800متر، وجد نفسه مضطراً الى الاختصار فجعله 5600 متر، ثم 3500 متر في شكله النهائي الذي نعرف. ولكي يتمكن الفيلم من ان يكون على هذا الطول ويظل مقبولاً من ناحية تسلسله المنطقي في رواية حياة نابوليون، حول غانس الفيلم وأحداثه الى ستة اقسام، ينقسم كل واحد منها بدوره الى مشاهد ولوحات عدة... ولقد كان من شأن هذا ان ينسف حلم غانس الأصيل، لكنه في الوقت نفسه اعطى فن السينما واحداً من اعماله الكبرى... إذ ان الفيلم اتى في نهاية الأمر متحدثاً عن حياة البطل في العناوين التالية: 1- طفولة بونابرت في بريان... ثم ولادة نشيد المارسيلياز، وبعد ذلك مشاهد استيلاء الثوار في فرنسا على قصر التويلري. 2 - في القسم الثاني يطالعنا بونابرت وهو لا يزال في كورسيكا، وتتلو مشاهد حياته هناك مشاهد تصور العاصفة التي أحاقت بالميثاق الثوري. 3 - وفي القسم التالي صور آبيل غانس ما يسمى بحصار طولون. 4 - وفي القسم الرابع، ننتقل الى بونابرت بالتواكب مع سنوات الارهاب يوم راح كبار الثوريين الفرنسيين يغتالون بعضهم بعضاً، وصولاً الى الأحداث الخطيرة التالية بما في ذلك اغتيال شارلوت كورداي. وفي القسم الخامس، يصور آبيل غانس - في قفزة لا يمكن اعتبارها منطقية هنا - زواج بونابرت من جوزفين، ثم نهاية عصر الثورة وبداية عصر بونابرت. أما في القسم الخامس والأخير فنجد أنفسنا أمام بداية التوجه في الحملة الايطالية وما تلى ذلك من أحداث. طبعاً، نعرف ان "حياة" نابوليون إذ قسمت على ذلك الشكل، لم تعد قادرة، سينمائياً، على الوصول إلا لأولئك الذين يعرفون مسبقاً تفاصيل حياة نابوليون بونابرت. في معنى ان الفيلم لم يأت على هذا النحو ليضيف معلومات جديدة وليعرّف نابوليون الى الذين لا يعرفونه، بل أتى أشبه بحفل تمجيد ضخم لامبراطور وقائد عسكري تريد الصورة أن تستفيد منه ومن حكايته بأكثر مما يستفيد هو منها. أو بالنسبة الى آبيل غانس نفسه فإنه قال دائماً عن عمله في صدد الحديث عن "نابوليون": "أنا أعتبر نفسي سينمائياً سوريالياً ملحمياً". طبعاً قد يكون في هذا الكلام ما يشي بقدر كبير من التناقض... لكن نظرة مدققة الى الأساليب الفنية التي اتبعها غانس في تحقيقه هذا الفيلم نتكشف كم انه على حق. ذلك ان تجزيء حياة بونابرت الى أجزاء تروى بالتواكب مع الأحداث الكبرى وفي بعض الأحيان عبر استخدام الشاشات الثلاث في لعبة تزامن طيبة للأحداث انما طغى عليه في نهاية الأمر طابع سوريالي لا مراء فيه، خصوصاً وأن آبيل غانس استخدم في بعض أجزاء فيلمه صوراً طبعها فوق صور أخرى فأتت مثل اللوحات التكعيبية وسط أجواء غرائبية وسوريالية... وخصوصاً أيضاً وأن آبيل غانس ادخل في الفيلم نفسه جديداً في مجال استخدام الكاميرا المتحركة الملتقطة للمشاهد في حركة بانورامية كانت في ذلك الحين شديدة الجدة. وكذلك جدّد آبيل غانس هنا في مجال التصوير تحت الماء ولا سيما في مشاهد حصار طولون. ويروى في هذا السياق أيضاً ان "جنون آبيل غانس" التقني جعله في واحد من مشاهد معركة بريان، يصر على أن ترمى كاميرا دائرة في الفضاء فوق احتدام معركة وسط هبوط الثلج، لكي تصور المعركة من وجهة نظر كرة ثلجية! وعلى هذا النحو يكون آبيل غانس قد أحدث تجديداً كبيراً في مجال تحقيق الأحلام التاريخية، حتى وإن لم يكن هو، كما نعرف، رائد هذا النوع من الأفلام. ولئن كان يؤثر دائماً عن نابوليون قوله: "لقد وسعت من حدود المجد"، فإن غانس، في هذا الفيلم، كان في امكانه ان يقول انه وسع من حدود امكانات فن السينما. غير ان هذا كله لم ينف واقع ان الفيلم انما كان بعد كل شيء فيلماً تمجيدياً خالصاً، وضع بطله في مصاف آلهة الأولمب، ونقل عنه كل ما له علاقة بالصورة الشعبية المتداولة. ولئن كان فيلم "نابوليون" هو الأشهر بين أعمال هذا العملاق السينمائي الذي يقول الفرنسيون عنه انه رفع الجبال، ثم كاد يهشم تحتها، فإنه حقق أفلاماً كبيرة أخرى، منها "انني اتهم" عن نص اميل زولا حول قضية درايفوس، ومنها "حق الحياة" و"الأم المتألمة"... وهو، إذ ولد في العام 1889، وظل على قيد الحياة، وعلى شيء من النشاط حتى العام 1981، فإنه ظل يواصل العمل حتى العام 1971، حين تصدى لتحقيق نسخة نهائية من "نابوليون"، بعدما حقق في العام 1964 فيلم "سيرانو" ثم "دارتانيان"، ليختمها حياة امتلأت بنحو خمسين فيلماً، يظل "نابوليون" أشهرها وأهمها من الناحية الفنية.