هل هناك فلسفة وهل هناك فلاسفة في الوطن العربي؟ هذا سؤال مكرر ومعاد منذ عقود عدة من الزمان. يثيره طلاب الشهرة وغواة الإعلام وطالبو النحيب والبكاء. وهو السؤال الاستشراقي القديم نفسه الذي طرحه المستشرقون عن الفلسفة الإسلامية: هل أتت بجديد وهل هناك فلاسفة إسلاميون أم أنهم مجرد شُرّاح لليونان؟ وتلاه الحكم على العقل العربي الإسلامي بالجدب والتقليد حتى يتفرد الغرب وحده بالإبداع. لعل السؤال الصحيح ماذا تعني الفلسفة؟ ومن هو الفيلسوف؟ ليست الفلسفة أبنية نظرية حول المعرفة والوجود والقيم، وهي مسائل الفلسفة الثلاث كما حددها الغرب، بل الفلسفة موقف حضاري ينبع في كل حضارة وفي كل عصر في طرق مختلفة. وضعها الغرب على هذا النحو في بدايات العصور الحديثة عندما رفض مصادر المعرفة القديمة: أرسطو، وبطليموس والكنيسة، وقطع مع الماضي وأصبح الواقع عارياً من أي غطاء نظري، واعتمد على العقل في مواجهة الطبيعة فأخرج العلم، وفي مواجهة المجتمع أخرج العقد الاجتماعي. لا تمر كل حضارة في الظروف نفسها. تنشأ الفلسفة في معنى أخذ موقف نقدي من الواقع من أجل تطويره، ودفع المجتمع في حركة التاريخ. كونفوشيوس فيلسوف لأنه نقد دين الصين القديم وإنزاله من السماء الى الأرض. وهكذا فعل سقراط. وبوذا فيلسوف لأنه نقد تعدد الآلهة في الهندوسية والشعائر والطقوس من أجل تحويل الدين إلى أخلاق وسيطرة على الأهواء والانفعالات. ولوثر فيلسوف لأنه أراد إصلاح العقائد. وبالنسبة الينا في الوطن العربي والعالم الإسلامي، الفيلسوف هو كل من يأخذ موقفاً نقدياً من القديم من أجل إعادة بنائه طبقاً لظروف العصر. وهو كل من يأخذ موقفاً من التراث الغربي وتحويله من كونه مصدراً للعلم كي يصبح موضوعاً للعلم حتى نقضي على ظاهرة "التغريب" في حياتنا المعاصرة. وهو كل من يأخذ موقفاً من الواقع المباشر، أي اللحظة الراهنة للإجابة عن سؤال في أيّة لحظة من التاريخ نحن نعيش ويدخل في تحديات العصر: الاحتلال والقهر والفقر والتجزئة والاعتماد على الغير والتغريب ولا مبالاة الناس. تختلف الفلسفة من عصر الى آخر، ويختلف دور الفيلسوف من حضارة الى أخرى. الغرب الآن منذ هيغل ينعى نهاية الفلسفة. وقد بان ذلك في فلسفات العدم والتناقض المعاصرة وفي ما بعد الحداثة والتفكيكية، في حين أن الفلسفة في الوطن العربي تبدأ بنقد القديم من أجل التخفف من الغطاء النظري الموروث حتى يتحرر العقل من التقليد، تقليد القدماء وتقليد المحدثين. وتحاول كذلك الخروج من الأزمة الراهنة. الفلسفة إذاً مرتبطة بالموقف الحضاريّ لكل شعب. فلكل حضارة فلاسفتها. ولكل شعب مفكروه. وليست جملة "أنا أفكر فأنا إذاً موجود" هي شرط الفلسفة، بل يمكن أن يكون أيضاً "أنا أعمل فأنا إذاً موجود"، أو "أنا أقاوم فأنا إذاً موجود". * مفكر مصري.