من أجل تفادي الانحشار في معمعة الجواب عن أسئلة من قبيل وجود أو عدم وجود "فلسفة عربية"، أو الوقوف عند مميزاتها إن سلمنا بحضورها النوعي في المجال الثقافي العام، أو الكشف عن العوائق التي تحول دون إنتاجها، لئلا ننخرط في هذه اللعبة المعقدة، والتي لا يسمح بها الحيز الممنوح للجواب، أميل إلى الإشارة إلى بعض الاعتبارات الملتصقة بسياقات القول الفلسفي. لا بد من الإقرار، بدءاً، بأن اعتبار الفلسفة حقل مميز للتفكير والسؤال، والمعرفة هي تصوُّر عام للكون والمجتمع، والإنسان لم يعد اعتباراً مُقنِعاً طالما أن هناك اهتمامات علمية جديدة تدرس مسائل الكون والمجتمع والإنسان. ويظهر أن كثيراً من المشتغلين بالفلسفة في العالم العربي يقرأون ويكتبون ويناقشون قضايا وموضوعات لا علاقة لها بالفلسفة وباسمها تنشط عناصر غريبة تساهم في قتل الروح الفلسفية أكثر مما تعمل على تغذيتها والسمو بها، لدرجة غدت فيها الفلسفة، في المجال العربي، لا تعاني مشكلة موضوع، أو مشكلة منهج، بقدر ما تواجه قضية هوية. وما دامت الممارسة الحقيقية للفلسفة مرتبطة، عضوياً، بعملية تدريسها منذ النسق الأفلاطوني إلى الآن، وما دامت تضطر للتنازل عن بعض تجريديتها لتتحول إلى بيداغوجيا، فإن اضطراب هويتها الثقافية، عربياً، ينعكس في شكل قوي، على عملية تبليغها وتلقيها. صحيح أننا نعثر في بعض الجامعات العربية القليلة على دروس في تاريخ الفلسفة، والمنطق، وفلسفة التاريخ، والإبستمولوجيا، والفلسفة العربية الكلاسيكية أو ما يهم الفكر العربي الحديث والمعاصر...الخ، كما نجد في الكتابات العربية من تبنّي اتجاهات فلسفية من قبيل الديكارتية، والشخصانية، والبراغماتية، والهيغلية، والماركسية، والوجودية، ومَن دعا إلى استنبات فكر ميشال فوكو أو فلسفة التفكيك...الخ. لكن المشكلة الكبرى تتمثل في أن الخطاب الفلسفي العربي يتكئ، دوماً، على مرجع منفصل عن سياقه الثقافي، ما جعل هذا الخطاب يعاني غربة مزدوجة: غربة عن الواقع الثقافي الذي كثيراً ما يعاند كل تفكير عقلاني، تنويري، وغربة عن الروح الفلسفية من حيث هي قوة سلب، وميل نحو خلق المسافة مع المألوف، أو بما هي "معرفة فرحة" تنشط بالسؤال وفيه، وتصغي لتحولات المرحلة لالتقاط مكوناتها وتفاصيلها. غربة الاهتمام العربي عن الفلسفة وعن الواقع أدت بالمشتغلين بها إلى تناول موضوعات وقضايا بأساليب أقرب إلى ما سماه هشام جعيط "فلسفة الثقافة" أكثر مما هي في صلب التفكير الفلسفي. لا شك في أن أسئلة عدة تهم الذات، والهوية، والآخر، والتقدم، والسلطة، والدين، والتاريخ...الخ طُرِحت منذ مدة، ولا تزال تُصاغ بأشكال مختلفة، وصحيح كذلك أن موضوعات الايديولوجيا والابستمولوجيا ..الخ عُولجت سواء من خلال الترجمة - بغضِّ النظر عن نوعيتها وقيمتها وحجمها - ومناقشة مفاهيم معرفية، لكن المشكلة لا تتلخص في الموضوع فقط، الذي له أهميته القصوى، وإنما في غياب الأسلوب الذي يمتلك القدرة على الجمع بين نمط التساؤل وشكل صوغ المفاهيم. مع ذلك، وعلى رغم أن الفكر الفلسفي العربي لم يجد في المناخ الثقافي إلا ما يعوق تحركه ويخنق تساؤله بسبب تقليدية هذا المناخ، والانتشار الكاسح للثقافة الدينية السطحية التي تحالفت، في شكل فجائعي، مع فضائيات همُّها المركزي هو تَجْييشُ الناس، وتحريك غرائزهم، واستفزاز وجدانهم، ومخاطبة حواسهم، على رغم ذلك ما زال مَن يجتهد داخل حقل الفلسفة، ولا تزال أنْوِيةٌ شابة تعمل على توصيل السؤال وتبليغ الهم الفكري، خصوصاً في بعض الأقطار العربية مثل مصر، ولبنان، وتونس، والمغرب. * أكاديمي وباحث مغربي.