لا شك في ان النازي جوزيف غوبلز وزير الدعاية السياسية لدى هتلر كان سيتقلب قهراً في قبره لو وصلته أخبار عن مدارس الكذب الجديدة، وعن عدد المرات التي تنقض فيها نظرياته يومياً حول الكذب والكذابين. رحل غوبلز عن هذا العالم تاركاً للبشرية نظريته الشهيرة "اكذب اكذب فإن لم يصدقك الآخرون صدقتك نفسك" من دون أن يعرف بتنامي عدد أتباع مذهب "الكذب الاحترافي" والذين هم من الشباب غالباً. يمارسون الكذب يومياً وفق قاعدة ذهبية يدوسون من خلالها كلامه وحكمته، ويعكسون بأعمارهم الصغيرة وتجاربهم المتواضعة، جزءاً صغيراً مما أصاب النفس البشرية من تعقيدات لا تنتهي من جهة وما اعتراها أيضاً من مصالحة فعلية ومواءمة ذكية بين الذات الداخلية والظروف الخارجية. فقد أدركت هذه الفئة الذكية أن تعاظم الكذب والحاجة إليه بصورة ملحة يومياً صارا يؤثران في حياتهم الشخصية وفي صدقهم مع ذواتهم، وصار لا بد من طريقة ذكية لحل هذه المشكلة تقوم على إدراك حجم الكذبة الخارجية وعدم السماح لها بالتأثير في الأمور الشخصية والصحة النفسية. فبتسليط الضوء على أحدهم نجده يقول مثلاً أنه حاصل على شهادة عليا من الولاياتالمتحدة ومن زوار كندا الدائمين ومن عشاق زياد الرحباني وقراء أدب أمين معلوف. لكنه في المقابل يرضى بوظيفة مرتبها الشهري لا يزيد على المئتي دولار لا بل اختار العيش في البلد لأنه يفوق كندا في أمانه وهو لا ستطيع معاشرة أي فتاة لخوفه من الإيدز! "الكشاش" بالشامي هو الشخص الذي يقوم بتربية الحمام و"كشه" أي تطييره فوق سطوح المنازل. لكن لهذه الكلمة في قاموس الشباب معنى آخر فهي تستخدم لوصف "الكذاب غير المحترف" أي الذي ما زال في الصف الأول من مدرسة الكذب، والذي "تقفش كشاته" اي تكتشف اكاذيبه من غير جهد يذكر. واذا كانت السمعة السيئة تلاحق "كشاشي الحمام" فان الفعل ل"كشاشي الكذب". والمجتمع الذي ما زال ينظر إلى الأول نظرة فيها شك وارتياب وينظر للثاني على أنه "شاطر وحربوق ينقصه بعض الخبرة والمعلمية". خارج صفوف مدرسة الكذب وبعيداً من الاحتراف والمعلميّة يقف جيل آخر من الشباب بحيرة لتتنازعه رغبات مختلفة بين "حبل الكذب القصير" الذي صار طويلاً جداً كما يرون، وبين حالة الصدق المبطن الذي يعيشونه يوميا مع أسرهم وأعز أصدقائهم بل مع ذواتهم، والوعي المتأخر لمجموعة من القواعد والعادات الكاذبة التي تحكم حياتهم اليومية بصورة شبه إجبارية. تقبيل الايادي...كذب عالذقون! فمع لحظات الصباح الأولى ما زال هناك شبان وصبايا يقبلون أيادي أبائهم وأجدادهم، بعضهم راض بما يفعل، لكن بعضهم الآخر يرى في ذلك كذباً ونفاقاً من الطراز الأول. فهم وعلى رغم محبتهم ومعزة أبائهم وأمهاتهم في قلوبهم يعلمون أن تقبيل الأيادي دليل لطاعة عمياء لا يستطيعون الالتزام بقيودها مستقبلاً، بل لا حاجة لها لأن مرتباتهم تفوق مرتبات أبائهم، ولأنهم صاروا قادرين على التقدم لطلب يد من يحبون من دون "عزوة يقودها وجهاء العائلة" الذين لا يرون وجوههم إلا في المناسبات الاجتماعية الاضطرارية. في نهاراتهم العادية يعيش هؤلاء عشرات الحالات الملتبسة ما بين الكذب الدارج و"تمسيح الجوخ" أي الديبلوماسية المنافقة التي توصل زملاءهم وفي أكثر الأحيان زميلاتهم إلى النجاح في الجامعة والنجاح في مسابقات التعيين الكارثية، وحصاد "الترفيع الوظيفي التلقائي"، وأمام مقولة "لا يصح إلا الصحيح" ومقولة "ما بتروح إلا على اللي ما بيتعلم" يقف الشباب في حالة لا توازن مبدئي. فهل "يصح الصحيح" أم أن طعم الحياة لن يتغير من دون بهارات الكذب. وأمام التعقيد الذي تشهده علاقات الجنسين تصيب هذه الفئة من الشباب حالات مركبة من خيبات الأمل والفرح المصطنعين، فمع تعاظم مظاهر التزيين والتجميل لعلاقات الحب بين الشاب والفتاة، صار هناك اختلاط كبير بين الحب ومظاهره. فالعلاقة على سبيل المثال لا الحصر لا تكتمل بغير دب يحمل على صدره عبارة I LOVE YOU! بل إن الدب وغيره من عناصر الترغيب صارت هدفا بحد ذاتها وكذباً جميلاً يتلذذون به، وتفرضه حاجاتهم النفسية والاجتماعية، وقد لا يستفيق منه أصحابه حتى بتعرضهم لكوارث عاطفية عندما "تذهب السكرة وتأتي الفكرة". عبر شاشات التلفزيون والكومبيوتر والموبايل يتلقى هؤلاء الشباب عشرات الصور والأفكار المشوهة عن مطربهم أومطربتهم المفضلة، وقد زينت أيدي الكذب وأدواته لقاءاتهم التلفزيونية وطلاتهم الإعلامية، حتى صار بين الفنانين ذوي السيرات الملتبسة أرباب للبراءة والرقة بل والعفة أيضاً! وأخيراً لا نعلم إن كان يجب علي وعلى طريقة نجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ أن أقول "لا تكذبي إني رأيتكما معاً" فبغير الكذب ستوقعك تقنيات "البلو تووث" بكثير من المآزق وبغير الكذب سيصير كلامك الحر عن الحب والجنس والخلافات الطائفية عبر شبكة الإنترنت مستحيلاً، وسيضعك الصدق اللامدروس في حال مواجهة دائمة ومجانية مع مشكلات كثيرة.