يصح في الولاياتالمتحدة القول المأثور إنها "لا تنسى شيئا ولا تتعلم شيئاً". لا تنسى "إساءة"، علما بأن النسيان خصلة ومأثرة في بعض الحالات، ولا تستوعب درسا. وهي لذلك بصدد إعادة حرب العراق من أولها، إن لم يكن في مداها فمن حيث المنطق، كأنه لم تمر على اجتياح بلاد الرافدين سنة ونصف السنة، تخللها من المصاعب والإخفاقات ما كان من شأنه وحريّاً به أن يراكم تجربة وأن يُشكل خبرة. الولاياتالمتحدة تعيد الكرة إذاً، من خلال الهجوم على الفلوجة، ف"تقترح" لمشكلة معقدة، سياسية وثقافية وسوسيولوجية، حلا عسكريا أي تبسيطيا. صحيح أنها حققت بعض التقدم، قياسا إلى ربيع سنة 2003، إذ لم تتوقع هذه المرة أن يستقبلها سكان الفلوجة بالزهور والرياحين، لأنها جاءت تخلصهم من استبداد الإرهابيين بمقدرات مدينتهم، لكن الجوهر يظل ثابتاً: اعتبار النجاح العسكري، وهذا يسير في متناول قوة مثل تلك الأميركية، نجاحا سياسيا، أو أداة نجاح سياسي وإكسيرا لإحلال الأمن واستتباب الاستقرار. والحال أنه يسهل توقع ما توقعه الجميع، عدا حكومة أياد علاوي ومن يشايعها ويحازبها ويرى رأيها، من أن اجتياح الفلوجة لن يستأصل الإرهاب من العراق ولن يكف أيدي الإرهابيين، من جماعة أبي مصعب الزرقاوي وما شاكلها ونحا نحوها من مجموعات، بل ربما أمدّها بنفس جديد. يعود ذلك أساسا إلى أن الولاياتالمتحدة، و"حلفاءها" حتى نبقى في حدود الأدب في العراق، لا يريدون، عجزا أو امتناعا، تبين أمر أساسي: أن بعض العنف المستشري في البلاد مقاومة، مهما كان الرأي في تلك المقاومة، وفي أساليبها أو في ما تطرح، خصوصا في إحجامها عن أي طرح وذلك ما يمثل أبرز نواقصها وعاهاتها، ومهما كان الموقف منها، مساندة أو اعتراضاً. جلي أن العنف في العراق ليس وحيد المصدر، ولا متماثل الأهداف ولا هو يتوخى أجندة واحدة. بعضه من سوية "جهادية"، على طريقة "القاعدة"، لا يرى في العراق غير "ساحة" من ساحات الحرب الكونية ضد "اليهود والصليبيين"، ولا يعنيه مآل البلد إلا من زاوية النظر هذه، وقد لا يهمه أصلا جلاء قوات الاحتلال عنه، بل ربما فضّل بقاءها في متناول ضرباته. وبعضه صادر عن بيئة معينة، هي تلك السنية العربية، في المثلث الشهير، تستشعر غبنا أو يساورها القلق منذ أن فقدت السلطة مع انهيار نظام صدام حسين، وهذه تجنح إلى عنف محدد الأهداف وعينيّ المطالب، وإن كان يؤخذ عليها أنها لم تفلح، أو لم ترغب، في تبرئة النفس من إرهاب قتلة المدنيين ومختطفي الأجانب وجازي الرؤوس، هذا إن لم تضطلع بمثل تلك الاقترافات، أو أنها توهمت إقامة "تحالف تكتيكي" على ما تقول الرطانة السياسية المستشرية بيننا منذ أيام الثرثرة النضالية مع مثل تلك الأوساط الإرهابية طبيعةً لا انزلاقا وعرضا، على اعتبار أن العدو واحد. يبقى أن نوعي العنف هذين يتطلبان مقاربة مختلفة. فإذا كان ذلك "الجهادي"، أي الإرهابي الصرف، لا يُعالج إلا بالقوة، ما دام هو نفسه لا يترك مجالا للسياسة ولا يعبأ بهذه الأخيرة أصلا ويعسكر المواجهة إلى الحد الأقصى بل على نحو حصري، فإن العنف الآخر، ذلك الفئوي أو الطائفي ما دامت المقاومة ظلت سنية وأخفقت في أن تصبح عراقية لا سبيل إلى معالجته إلا بالوسائل السياسية، إذ دون ذلك تغذية الضغائن الأهلية، عوض تذليلها، والزج بالبلد في أتون اقتتال أهلي، قد يتحول إلى شقاق سني-شيعي واسع النطاق، على الصعيد العالمي. وهو ما بدأت نذره تلوح، داخليا وخارجيا. إذ اتهمت "الحركة السلفية" العراقية رئيس الحكومة أياد علاوي ب"شن حرب على السنة"، وأخذت على المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني "صمته" حيال ما يجري في الفلوجة، في حين تلاسن نواب سنة وشيعة في برلمان البحرين، وتبادلا الاتهامات. أسوأ ما يمكن أن يلمّ بالعراق، أن يتحول الوجود الأجنبي فيه من مشكلة وطنية إلى مشكلة طائفية، من مشكلة تضع العراقيين في مواجهة الأجنبي وإن اختلفت أساليب المواجهة إلى وضع عراقيين في مواجهة عراقيين، أي أن تصبح ذريعة للتفرقة والاحتراب الأهلي عوض أن تكون أداة اجتراح إجماع وطني متجدد أو ينبعث من العدم، طالما أن "الوطن" كان، قبل ذلك، قوامه القسر والحديد والنار وسيطرة فئة على سائر الفئات. وتباين الاستراتيجيات الفئوية أمر شرعي قدر شرعية تباين المصالح، والإقرار بذلك أساس الإقرار بشرعية الاختلاف، قوام الوطنية العراقية المنشودة والتي لا مناص من إعادة اختراعها وإعادة إرسائها على غير ما كانت عليه، وذلك ما يجب أن يفهمه السنة، وليس من خلال استبدال غلبة بغلبة، وذلك ما يجب أن يعيه الشيعة، هذا ناهيك عن أن نشوء مثل ذلك الاستقطاب الثنائي السني-الشيعي من شأنه أن يقصي سائر الفئات العراقية الأخرى، المذهبية والدينية والإثنية، فيغمطها حقوقها الوطنية، أو يزيّن لها الانفصال والاستقلال، حيث كان ذلك ممكنا وإن لم يُواجه بفيتو دولي. صحيح أن الكلام هذا يبدو أشبه بالموعظة، من قبيل ما درج "مفكرونا" الكثيرون عددا والضئيلون فكرا على تحبيره، لكن ما لا شك فيه أن اجتياح الفلوجة ينذر بتصدع أهلي يتهدد العراق وقد ينسف مقوماته الهشة أصلا. يبدو ذلك أمرا بديهيا. قد يفهم المرء ألاّ تعيه الولاياتالمتحدة، تلك التي قد لا تفقه شيئا من ذلك الشرق الإكزوتيكي، أو أنها تنظر، من علياء موقعها الإمبراطوري، إلى كل عنف يواجهها، على أنه إرهاب يعامل معاملة الإرهاب، إذ كيف يمكن لمقارعة قوة الخير المحض، حسب النظرة الرسولية البوشية، أن تكون مقاومة؟ ولكن كيف يغيب ذلك عن أطراف عراقية، يُفترض أن المصلحة الوطنية هاجسها، وبها تسوّغ تعاونها مع قوات الاحتلال بدعوى التعجيل بجلائها، في حين أنها، إذ تخاطر بالحرب الأهلية، قد لا تفعل شيئا سوى توفير الشروط والذرائع لاستبقائها إلى أجل غير معلوم.