في ظل عالم يعمل على تثبيت دعائم وحدة نظامه، وعلى تحويل الانسان الى مجرد خادم آلي لسلطة حاكمه الأوحد، يجدر بنا أن نجدّد سؤالنا النقدي على أساس ما يخصّ البعد التاريخي لوجودنا الانساني. وهذا يعني ان نرى الى علاقة النقد الأدبي بالأعمال الأدبية، كعلاقة مركّبة، مفصلها المرجعية الاجتماعية، وحقلها الثقافة باعتبارها دينامية لتفاوتات وتناقضات محورها الانسان في وجوده، وباعتبار الأدب مبنياً بصور هذا الوجود ومعناه. ليس لسؤالنا النقدي أن يبقى في حدود الأدبي المجرّد، أو ان يُطرح فقط على مستوى الأداء التقني، لأن في ذلك تهميشاً للأدب، وتجريداً للنشاط النقدي من فاعليته في الثقافة والحياة. ان مفهوم المرجعية المفارقة الى عالمها المتخيل، ومفهوم القوة الإحالية الملازم له هما الأكثر ملاءمة لإخراج النقد الأدبي من مأزق عاناه. يتمثّل هذا المأزق في وضع السؤال النقدي بين مسألة المعنى ومسألة الشكل. وقد عانت تجربتنا النقدية العربية هذا المأزق، بسبب الاستعارة من التيارات النقدية الغربية، وعدم أخذها في الاعتبار ان علاقة المناهج بالأعمال الأدبية تندرج في سياقات ثقافية لها تاريخها، وأسئلتها، وتوجهاتها. غير ان القول بمفهوم المرجعية، وبالتلازم الإحالي، يعيد الى النقد أسئلة منسية تخص: حقيقة الأدب، وطبيعة المتخيّل، والمسافة بين الأدب والعالم. يبدو لي أن وضع العمل الأدبي على مستوى علاقته بالقراءة، يشكّل منفذاً الى شريان حي، به يستكمل العمل الأدبي شبكة علاقاته المعقدة، ويؤكد كونه متغيّرة مستمرة في الزمن، كما انه ينقل مسألة الاهتمام بالعمل الأدبي من اعتباره مجرد بناء، أو مجرد مضمون، الى اعتباره تواصلاً. يرتكز التواصل الى توسطات فنية يتوسلها الكاتب ليبني عالم نصه المتخيل. ويمكن، بحسب "جوف" تمييز قطبين: فني وجمالي. الفني هو مجموعة الاستراتيجيات النصية التي بها سيحدد العمل قراءةً من جانب قارئ ضمني يؤدي الدور الذي يعده له النص. غير ان في امكان القارئ الفعلي الا يقبل بهذا الدور، لأن في إمكانه أن يحلل النص بامتدادات خارج نصية، مكوناً بذلك القطب الجمالي. تحيل جمالية العمل على ما يحققه القارئ الفعلي. كما ان امكانات هذا القارئ الثقافية والمعرفية، تخوّله محاورة ما يقرأ، ومساءلة المكتوب عن معنى صورته فيه. وبذلك يبدو السؤال حول علاقة هذه الجمالية بالقيم الثقافية شرعياً. إذ بهذا السؤال يُدخل القارئ الفعلي العمل الأدبي، من جديد، في علاقته المركّبة المنسوجة بين الكتابة والقراءة والحياة، بين المتخيّل والمرجعي والانسان. تضعنا نهاية القرن وبداية قرن جديد، أمام حاجتنا الى نقد هو قراءة لا تفارق حياة لا يفارقها الأدب، خصوصاً أن الأعمال الأدبية، كما يبدو اليوم، من المواقع الأخيرة التي ما زال في إمكان الإنسان أن يصون فيها، وبها، وجوده وحقه بحياة انسانية عادلة.