صرح الدكتور يوسف القرضاوي في نقابة الصحافيين في مصر في 31/8 بأن خطف الاميركيين وقتلهم واجب، حتى يخرجوا من العراق فوراً، ولا فرق بين مدني اميركي وعسكري، لأن المدني في خدمة العسكري، ونشرت الصحف العربية نص تصريحه، فكان عنوان"الحياة"2/9:"قتل الاميركيين المدنيين في العراق واجب"، و"الراية"في 3/9:"الأميركيون في العراق كلهم محاربون وقتالهم واجب". وواجه هذا التصريح هجوم شديد، فكتب أحمد الربعي الشرق الأوسط في 3/9 نقداً شديداً، ووصفه العيسى القبس 6/9 بأنه تصريح للقتل، وأبدى السيد حسين الصدر استغرابه لصدور فتاوى في أوضاع العراق من خارجه "الحياة"5/9، وقال محمد باقر المهري أمين عام تجمع علماء الشيعة في الكويت:"انها فتوى ارهابية""الوطن"5/9"، وتساءل أحمد راسم في"القاهرة"المصرية:"لماذا سكت عن المدنيين البريطانيين؟ ولماذا يجوز الاستعانة بالأميركيين لدول الخليج ولا يجوز للعراق؟". واحتاج الشيخ الى 10 أيام ليرسل بياناً ينفي صدور الفتوى عنه "الحياة و"الراية"9/9 ثم عقد مؤتمراً صحافياً في الدوحة في 9/9 يقول فيه ان"عبيد الأميركان هم الذين روّجوا الفتوى الكاذبة"وتحمل صحف يوم الجمعة 10/9"القرضاوي يقول: الإسلام لا يجيز قتل المدنيين"، ويكتب رضوان السيد في"الحياة"في 11/9 أن القرضاوي ما دام قد نفى الفتوى فقد أصبح تعليقه عليها الذي نشرته"الحياة"غير ذي موضوع. أين الحقيقة؟ وهل تراجع الشيخ عن رأيه أو فتواه؟ الحقيقة ان الشيخ لم يتراجع وان اتهم الجميع بأنهم زوروا وتجنوا عليه لتشويه صورته وان وراء الحملة أعداء الاسلام والموساد "الراية"10/9. الفتوى التي نقلتها الصحف صحيحة كما صدرت عنه في نقابة الصحافيين، ولا أحد يريد الإساءة الى الشيخ، وما ذكره الشيخ في مؤتمره الصحافي تأكيداً لفتواه السابقة وان أوحت عناوين الصحف بغير ذلك لأن الشيخ قال في المؤتمر"كل مدني له علاقة بالعسكريين يجب قتاله والخدمة التي يؤديها المدني للعسكري ليست خدمة مدنية"واستثنى فقط من لا علاقة له، مستبعداً وجود مدني أميركي لا علاقة له، ثم أكدها في"الشريعة والحياة"عبر قناة"الجزيرة"بل واعتبر المتسللين عبر الحدود العراقية مجاهدين، ثم كرر الشيخ فتواه ووسعها في إجابته على مراسل"الحياة"في الدوحة محمد المكي أحمد حين سأله عن المدنيين المسلمين العاملين هناك بحكم الواقع مع القوات الاميركية، فقال:"من يعاون المحتلين يأخذ حكمهم""الحياة"23/9. وعلى ذلك يجوز قتال الحكومة العراقية والشرطة العراقية والسائقين العرب والعمال والطباخين الذين يتعاملون مع القوات متعددة الجنسية في العراق، وهو منطق الخاطفين نفسه الذين ذبحوا العمال النيباليين وخطفوا اساتذة الجامعة ويقومون بتفجير السيارات في الشرطة العراقية والمدنيين! لذلك انتقدت"الاتحاد"الاماراتية في 22/9 الفتوى، باعتبارها السبب المباشر لقتل الرهينتين الاميركيين ودعت ذوي الفقيدين الى رفع قضية على الشيخ، وايضاً مطالبة أي دولة عربية تؤوي مشايخ فتاوى الرعب تسليمهم للعدالة، وكتب أحمد عبدالملك في"الاتحاد"في 23/9"هل يعتبر الشيخ وجود القوات الأميركية في الخليج احتلالاً يجب مقاومته لأنها القوات نفسها التي تضرب الشعب العراقي؟". وكتب عبدالكريم حشيش "الراية"21/9"عفواً صاحب الفضيلة فإن افتاءك بقتل كل مدني يعمل مع القوات الاميركية فيه شطط كبير، حيث انه وبمنطقك نفسه فإن غالبية الشعب الفلسطيني سيكون واجباً قتلهم لأنهم يعملون في خدمة المحتل الاسرائيلي! ولهؤلاء الذين استنكروا واستغربوا: كيف يُجوّز الشيخ قتل المدنيين وهو أحد رموز الاعتدال البارزة؟ أقول ان الشيخ في مؤتمره الصحافي، استغرب بدوره وتساءل مندهشاً:"هل هناك خلاف في وجوب مقاومة المحتل؟". فتوى الشيخ تقوم على علة وقياس منطقي: الأميركيون غزاة، وقتال الغزاة واجب، وكل من يساعدهم يأخذ حكمهم... هكذا بكل بساطة. ان الأسئلة الغائبة والتي يجب طرحها هنا، ليست متحضرة في جواز قتال المدنيين أم لا، ولكن ما هو أعمق وأشمل، حول اساس الفتوى وتوقيتها وتوظيفها. 1- هناك اسئلة تتعلق بتوقيت الفتوى، لماذا أصدر الشيخ فتواه وكررها كثيراً في هذه الأيام التي تشهد الساحة العراقية المزيد من عمليات القتل والتخريب وخطف المدنيين وذبحهم، بهدف تعطيل عمليات الانتخابات المزمع عقدها في موعدها المحدد في كانون الثاني يناير. 2- اسئلة تتعلق بصاحب المصلحة في هذه الفتوى: هل هي غالبية الشعب العراقي الذي يريد الأمان والاستقرار أم الأقلية من جماعة الزرقاوي في الفلوجة وأنصار مقتدى الصدر وبقايا النظام المخلوع التي تسعى بكل الطرق لضرب الاستقرار وبث الرعب وتدمير ثروة العراق بحجة المقاومة والجهاد؟ بلغت ضحايا الارهابيين 13 ألف مدني عراقي والخسائر المتحققة خلال 20 يوماً في تخريب خطوط الانابيب وحدها 600 مليون دولار. 3- أسئلة تتعلق بأهداف الفتوى: دول العالم بما فيها الدول العربية تهدف الى وضع حد لأعمال العنف والارهاب في العراق ومساعدة الشعب العراقي على اعادة الإعمار، بينما تهدف الجماعات الارهابية التي تتسلل الى الساحة العراقية وتحتشد فيها، لتحويلها الى جبهة مركزية للارهاب وتصديره الى الدول المجاورة، طبقاً لما صرح به الزرقاوي اخيراً من ان أهدافه تتجاوز الحكومة العراقية الى قلب النظم المجاورة. فهل تساند أهداف الجميع في استقرار الوضع هناك أم تزيد النار اشتعالاً؟ 4- لا نجادل الشيخ في ان الاميركيين غزاة، وانه يجب مقاومة الغازي، ولكن هذا الغازي جاء لمهمة محددة واسقط النظام الجائر، وسواء أكان ذلك صواباً أم لا، فقد قرر تسليم الحكم والرحيل بمجرد استقرار الوضع العراقي، واعلن ان بقاءه مرهون بإرادة الحكومة وموافقة الشعب، وتوثق ذلك بقرار مجلس الأمن رقم 1546 وهو يسعى جاهداً لتدريب قوات الشرطة العراقية لتسليمها المهمات الأمنية، فهل نساعد الحكومة العراقية في تحقيق هدف الاستقرار ورحيل الغازي أم نساعد الميليشيات المسلحة التي تزيد معاناة العراقيين وتقدم الحجة والذريعة لبقاء المحتل؟ 5- لقد انتهت ولاية المحتل بتسليم السلطة الى الحكومة الوطنية في 30/6 وبموجب قرار دولي اجماعي، واعترفت حكومات المعمورة بالحكومة الجديدة، كما نالت موافقة غالبية الشعب العراقي ومراجعه الدينية العليا إلا اقلية مناهضة لها أجندتها الخاصة، وقد كلفت هذه الحكومة بتأهيل العراق سياسياً وفق جدول زمني وعبر مؤتمر وطني يمهد لانتخابات وجمعية وطنية ودستور وحكومة منتخبة بحلول ايلول ديسمبر 2005، فهل نلوم هذه الحكومة اذا استعانت بالقوات الدولية لبسط سيطرتها الأمنية وحماية موظفي الأممالمتحدة المشرفين على الانتخابات؟ 6- وبغض النظر عن رأينا في الحكومة العراقية من حيث اكتمال سيادتها أو لا، لماذا لا يكون من حقها الاستعانة بالقوات الدولية لمواجهة جحافل الارهاب الوافدة لزعزعة الوضع مع ان حاجتها الى الأمن والاستقرار والحماية أشد من حاجة دول الخليج التي تستضيف القوات نفسها على أراضيها؟ 7- هل يصدق الشيخ ان هناك مقاومة وجهاداً؟ أي مقاومة وأي جهاد هذا، وهو لا برنامج له ولا هدف غير الذبح والخطف والتدمير ولا قيم أخلاقية تمنعه من ارتكاب المجازر؟ 8- يطالب الشيخ بالخروج الفوري، فهل فكر في عاقبة ذلك على سلامة الوضع العراقي داخلياً وخارجياً، وما هي الضمانات لتلافي نشوب حرب أهلية تؤدي الى تقسيم العراق وتدخل دول الجوار الطامعة؟ * كاتب قطري، العميد السابق لكلية الشريعة في جامعة قطر.