قارئُ جابر عصفور يستعيد، على الفور، صورة ذلك المثقف الحالم والمتعدد والمسمّى، في ما سبق، المثقف الرومانسي. وجابر عصفور لا يعتبر مثقفاً رومانسياً إلا في معنى واحد وهو الموسوعية والشمول. أما ما ينتمي لديه في نظام التفكير فيضعه في خانة المفكرين النقديين العقلانيين. وقد أفاد عصفور من الرومانسية من إمكان "مواجهة" الفرد - العقل للجماعة، أولاً. ثم ضخت فيه الرومانسية ذلك الروح الحالم والمندفع باتجاه التغيير والحداثة، ثانياً. وفي اتحاد التوثب الرومانسي بالعقلانية والمنهج النقدي شكّل عصفور تلك المساحة الواسعة في الثقافة العربية. فهو من العاملين الأساسيين في تحديث النقد العربي والعقل الثقافي، سواء في دراسته نماذج النقد الأدبي الأولى المتمثلة بقدامة وابن طباطبا والقرطاجني والجرجاني، أو في دراساته المستمرة في الفكر النقدي الجديد كما نرى في قراءته طه حسين وتقديمه لكتاب الأخير "الأيام" في سلسلة كتاب في جريدة، أو في مقاله المنشور عنه في كتابه الصادر حديثاً "الاحتفاء بالقيمة" لدى دار المدى دمشق - 2004. والمتتبع لمشروع عصفور يفهم تنوع البحث النقدي لديه بصفته كشفاً لشبكة الاتصال بين المعارف وكذلك تداخلها في الحياة الواقعية. وهي من قيم الفكر النقدي الأساسية التي ترتكز على كشف "النظام" والتخلّص من شبهة الانفصال والاستقلال في الحقائق. فيظهر كشفه ل"النظام" في زمن الرواية أو مواجهة الارهاب أو الصورة في التراث النقدي البلاغي على سبيل المثال لا الحصر. وهو اضافة الى ذلك يعيد ما يمكن تسميته زمن المقال حيث يظهر لديه المقال مشروعاً بحثياً كاملاً، ما يذكر، مرة أخرى، بالمقال كقيمة منهجية مكثفة عرِفت لدى الكثير من المفكرين والباحثين. وفي كتاب "الاحتفاء بالقيمة" يتأكد الأمر ويتخذ شكلاً متنوعاً من الفكر النقدي الى السينما والى الرواية وقضايا المرأة والشعر. يجمل عصفور الاحتفاء بالقيمة على انه "احتفاء بالحياة في أصفى حالاتها وفي أرقى تقدمها الصاعد الى ما لا نهاية". ومن هنا فإن الاحتفاء بالقيمة "احتفاءٌ بالانسان". ولأن القيمة تحمل صفتي الاطلاق والنسبية، فإن الباحث يذهب الى "موقف يتوسط بين أنصار الاطلاق وأنصار النسبية"، متحدثاً عن العناصر الثابتة في القيم والمتغيرة وكاشفاً ان القيمة حتى لو أمكن العقل من تجريدها فهي "لا توجد مجردة" بل توجد "متجسدة في مواقف لشخصيات عظيمة". هنا نذكر مرة أخرى بالحجَر الكبير في عمارة عصفور الثقافية وهو المستوى الرومانسي المستعيد الانسان قيمة أولى. هكذا يعبر الناقد عن احتفائه بالقيمة في شكلين: الأول، القيمة محمولاً، الفكر. والثاني، القيمة حاملاً، الانسان. لذلك يختتم التقديم بقوله: "الدراسات التي يحتويها هذا الكتاب احتفاءٌ ببعض هؤلاء الذين يجسدون بحضورهم المعنى الخلاقَ للقيمة في حياتنا الثقافية". لذلك احتفى عصفور ابتداء بطه حسين ومحمد فريد أبي حديد ونجيب محفوظ مروراً بلطيفة الزيات وشوقي ضيف ولويس عوض وسعدالله ونوس وانتهاء بالسينمائي الراحل رضوان الكاشف وجبرا ابراهيم جبرا... وسواهم الكثير بالطبع. وفي اختيار من بعض احتفائه نقرأ طه حسين، فهو من "الرواد المتميزين" الذين واجهوا مجتمعهم "مواجهة شجاعة في مجالات كثيرة منها الدرس الأدبي". فيشير الى تأثر حسين بالتيار العقلاني والمنطق السببي. معتبراً انه طبق "فكره العقلاني على التراث العربي. فبدأ دراسة الشعر العربي من منظور العقلانية السببية". موضحاً مبدأ الشك الديكارتي الذي "استعان به في مناقشة كل ما يتصل بالشعر العربي القديم". ويعبر عصفور عن احتفائه بإعادة التذكير بالأسباب العقلية التي أدت بحسين الى التشكك في الشعر الجاهلي. ويجمل المؤلف الاحتفاء بكتاب حسين "في الشعر الجاهلي" من خلال نقاط متعددة منها كونه "نموذجاً راقياً للمنهج العلمي"، هذا مع الاشارة الى قول عصفور: "بغض النظر عن موافقتنا على ما فيه". ومنها ان الكتاب "نموذج لحرية الفكر وشجاعة المفكر" اضافة الى انه "ممارسة للحياة الجامعية الحقة وتجسيد لها". هذا اضافة الى كتاب حسين عن مستقبل الثقافة في مصر، حيث يفرد له المؤلف مكاناً واسعاً. قدّم عصفور للقيمة بوصفها حاملاً ومحمولاً، كما أشرنا. فيأتي احتفاؤه بقيمة الأشخاص كونهم حاملي قيمةٍ متبدلين، من واحد الى آخر. هنا يصل الى "رائد منسيّ" هو محمد فريد أبو حديد 1893 - 1967 الذي سمّاه "من هؤلاء الرواد المنسيين في ثقافتنا" ويذكر بالصلة القائمة بين أبناء "الجيل الليبرالي" المنتسب اليه أبو حديد، والصلة في "الايمان المتماثل بالدولة المدنية" والادراك المتشابه ل"مدلولات الحرية" وكذلك اشتراكهم في "نزعة إنسانية رحبة" التي اعتبرها وجهاً آخر "للنزعة الموسوعية التي تميز بها أبناء الجيل" نذكر مرة أخرى بأن مستويي النزعة الانسانية والموسوعية من أساسيات تفكير عصفور التي نراه يستخدمهما مفتاحين لقراءة الثقافة. ولا أدل على ذلك من إشارتيه السابقتين، لتكون رواية أبي حديد "صحائف من حياة" إضافة "الى التأسيس الجديد الذي صنعه هيكل في روايته "زينب"". ثم رواية "ابن الملوك" و"زنوبيا ملكة تدمر" و"الملك الضليل" و"امرؤ القيس" و"المهلهل سيد ربيعة" و"آلام جحا" و"أزهار الشوك" و"أنا الشعب". معتبراً ان أعمال أبي حديد الروائية: "تقرن الجديد الابداعي بتأصيل جذور الهوية العربية". هذا اضافة الى تجديد أبي حديد في المسرح في مسرحيات متعددة. وكذلك الريادة في الكتابة للأطفال. منتهياً الى ان أبا حديد كان "نموذجاً للوسطية التي لا تثير العواصف ولا تهيج البراكين وإنما تمضي في يسر الى هدفها الذي يكمل مهمة غيرها ويضيف على سبيل التراكم الكمي". يشار الى ان عصفور احتفى بكتابه بالكثير من القيم وحامليها، الا انه أشار في الوقت نفسه الى نوع من الاغفال الذي طاول البعض من "القيميين" ان صح التعبير ومنها اشارته السابقه عن أبي حديد. لذلك آثرنا في مقالنا الافادة من مطالعته عن الأقل شهرة زيادة في قيمة القيمة، باستثناء طه حسين لأن الأخير ليس مجرد بداية كتاب بل تأسيسٌ منهجي يوحي بنظام التفكير الذي يجمع تناثر المقالات في منطقه الداخلي. لهذا نكتفي بالاشارة العابرة عن تناول عصفور لتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ باتجاه قراءة الكتاب كلاً لا اختياراً. وهو الأمر ذاته الذي اتبعناه مع قراءته الشاعر العراقي سعدي يوسف وسواه مثل سعدالله ونوس. في قراءته، أو احتفائه، سهير القلماوي نعرف انها بداية المسار، كما يعبر، من "الدهشة المسحورة الغامضة الى نضج التأمل وهدأة العقل النقدي" وذلك من خلال دراستها عن "ألف ليلة وليلة" فيثبت عصفور الرسالة التي قدّم بها طه حسين للقلماوي والتي هي أيضاً من أساتذة المؤلف. ويشير عصفور الى انه لم يكن الوحيد الذي "قادته سهير القلماوي الى آفاق جديدة" بل ان "جيلي كله يدين لها بذلك"، بوصفه القلماوي "رائدة"، لولاها "ما وجدنا العشرات من الكتب التي تتنافس في جدة المنهج وتعدد المنظور والتي تشترك كلها في التواصل مع تقاليد خلاقة استهلتها دراسة أستاذتنا سهير القلماوي". فنعرف أنها "أول امرأة تحصل على الدكتوراه من الجامعة المصرية في الآداب وأول من تولى رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب". وفي مكان آخر يقول انها "مثال للأستاذ الجامعي الأصيل في احترامها حق الاختلاف". نؤكد للقارئ الكريم اننا تجنبنا عرض المقالات المنشورة أيضاً في "الحياة" على اعتبار معرفة القراء بها وان حدث من عود على بعضها فلضرورة منهجية تتصل بالأدوات النقدية الخاصة بالمؤلف والتي توحد مساره الفكري. لهذا تجاوزنا مقالات عن سعدالله ونوس ولطيفة الزيات ومحمود أمين العالم ونجيب محفوظ ومقالات عن قضايا المرأة. نشير الى ان قسماً كبيراً من الكتاب خصصه عصفور لأساتذته الجامعيين كالقلماوي وعبدالعزيز الأهواني وشكري عياد وشوقي ضيف وحسين نصار. وكذلك مقالات في مناسبات ذكرى وفاة البعض مثل لويس عوض وجبرا ابراهيم جبرا والمخرج السينمائي رضوان الكاشف. ونلاحظ ان كل هذا التنوع في الشخصيات والأفكار، القيمة والحامل، تم عرض سمْتها النقدي من خلال النظام العام الذي يبرز عصفور من خلاله أدواته النقدية وشغفه بالتجديد والتغيير وتموين العقل الثقافي المرتكز لديه على أساسيتين لا تنفصلان: الأولى النزعة الانسانية، والثانية العقل النقدي الذي ينتصر للقيمة عبر فحص نموذجها النظري. وهو في احتفائه، هذا، يحتفي بالفكرة وبنظام التفكير، بالقيمة وصاحب القيمة، عبر وسطية قدم لها من خلال إمكان قراءة الوعي الثقافي من خلال نسبية القيمة وإطلاقها، قيمة الحامل والمحمول، تقاطع العقل والعاطفة في المكان الذي يحول الادراك الشعوري الى معرفة والادراكَ العقليَّ الى أساس وبداية.