ينطلق جاد الحاج في نصّه المسرحي "بنت أصل" مسرح مونو من أسطورة ميديا الاغريقية مسقطاً إياها على الحرب اللبنانية أو بالأحرى مسقطاً هذه الحرب على أسطورة ميديا، جاعلاً من المرأة الاغريقية شخصية لبنانية من لحم ودم. المرأة التي سميت "الساحرة الكبرى" في الميثولوجيا اليونانية اصبحت هنا امرأة "حقيقية" ولكن في حال من التخبط والهذيان. فالنص الذي شاءه جاد الحاج درامياً وتجريبياً يبدأ في اللحظة شبه الأخيرة من مأساة هذه المرأة أي في لحظة عودتها للانتقام من زوجها الخائن الذي سمّته "القلعوط" أو القذر بالفصحى، بُعيد تركه إياها وقبيل احتفاله بزواجه الثاني. الزوج هو جيزون في الاسطورة وفي المسرحيات الكثيرة التي استوحت قصة ميديا وأبرزها مسرحية أوريبيد اليوناني التي أخذ عنها سينيك وكورناي وجان انوي ولكن كل على طريقته وبحسب رؤيته المأسوية. جيزون لبناني بل "بطل" من "أبطال" الحرب الشنيعة، قاتل وسارق وزعيم عصابة "ميليشيوية" يسيطر على الفتاة ميديا اللبنانية في مطلع الحرب عندما كانت في الثامنة عشرة فتقع في حبّه وهو أيضاً. وإذ يعترض أبوها "البيك" الثري وذو النفوذ السياسي تصرّ هي على الزواج منه على رغم الفارق الطبقي - الاجتماعي بينهما. أخوها الفنان الذي يملك وحده اسماً فارس في المسرحية ينبهها الى أنها تحب في "الميليشيوي" لمعان بندقيته وجزمته وعندما تنتهي الحرب فهي لن تجد فيه جاذباً. لم تقتنع ميديا وتزوجت من "الشاب" الذي تسمّيه الآن "القلعوط"... وما لبثت أن بدأت مأساتها التي لم تنتهِ في المسرحية إلا نهاية مفتوحة ومجهولة. طبعاً لا تمكن قراءة المسرحية نقدياً بعيداً من اداء دارينا الجندي لشخصية "ميديا" اللبنانية ومن الرؤية الاخراجية التي رسّخها غبريال يمّين كمخرج للعرض. فالنص بدا كأنه حلّ في روح الممثلة القديرة وفي جسدها فغدت بحق تلك المرأة المقهورة والمهزومة التي تعيش آخر لحظاتها قبل السقوط في غيبوبة الجنون أو الانهيار النفسي. فالجريمة التي ارتكبتها ميديا في النصوص العالمية كافة والتي عاشت - قبلها وبعدها - حالاً من الصراع الداخلي الممض شاء المخرج أن يجعلها مبهمة دافعاً المتفرّج الى التساؤل: هل قتلت ميديا ولديها انتقاماً من زوجها الظالم والفاسد؟ ولعلّ "تغييب" الجريمة هذه قد يسيء الى النص والعرض معاً. فالجريمة "الأمومية" هذه تمثل ذروة المأساة التي جسدها أوريبيد وكلّ الذين أخذوا عنه وهي أيضاً ذروة الصراع النفسي الرهيب الذي عاشته ميديا بين التضحية بالأمومة وقتل الولدين من جهة والانتقام لشرفها المجروح والذي تخلّت من أجله عن الأهل والبيت والماضي... علاوة على أن هذه الجريمة كانت فاتحة مسرح "القسوة" عالمياً وتاريخياً وهو مسرح سيلقى ذروته في أعمال كتاب مثل آرتو وجينه وسواهم. إنها وجهة نظر المخرج الذي أبدع حيّزاً سينوغرافياً جميلاً هو عبارة عن غرفة في فندق وتمثل جداريتها شاشة شبه بلورية وعليها ستعرض لقطات مصورة تستعيد جزءاً من ماضي ميديا السعيد وكذلك بعض اللقطات التي ترتبط بالمواقف والحالات المتفجرة عبر "مونولوغ" ميديا - دارينا الجندي - الذي تميّز بعدم الاغراق في التداعي اللفظي أو الانشائي. وقد أحاطت هذا المونولوغ موسيقى إريك ساتي البديعة. فالمرأة التي غرقت في جحيمي الحب والحرب جعلت عنفها داخلياً من كونها الضحية الأولى للحب والحرب. فهي التي انجرفت في لعبة القتل نزولاً عند رغبة حبيبها - زوجها، الزعيم الميليشيوي، لم تتوان عن قتل أخيها ولكن ليس على طريقة ميديا الاغريقية بل قتلته من دون علمها. وهنا يبدو فعل القتل مصطنعاً خصوصاً أنه زجّ في وقائع الحرب، وقد أقنعها زوجها بوضع متفجرة في أحد المسارح بغية قتل عدد من أهل المسرح والثقافة والفن الذين يحتجّون على الحرب والميليشيات. وهذه فكرة غير مقنعة تماماً مثل "تيمة" أو مقولة الحرب ككل. فالحرب التي بلغت أوج البشاعة والعبث كان الجميع فيها ضحايا، حتى القتلة والمجرمون. ويجب عدم تجاهل ان الكثير من المقاتلين اشتركوا فيها انطلاقاً من إيمانهم بمبادئ معينة. حافظ المخرج إذاً على "نظافة" يدي "ميديا" جاد الحاج وحاول تبرئتها من الجريمة التي وسمت اسطورتها. فما جعلها تقتل أخاها بيدها ولا ولديها أيضاً. اكتفى المخرج بدمارها الداخلي وسقوطها وبالجرائم التي ارتكبتها خلال الحرب كرمى زوجها. لكن النهاية "المفتوحة" استطاعت أن تعوّض غياب "الجريمة" الأمومية من خلال الأبيات الزجلية التي راحت ميديا تؤديها وكأنها تندب أمواتاً أو تهنئ عريساً في وقت واحد. كأنها هي الضحية أولاً وأخيراً وليست القاتلة ولا "المجنونة الشرسة" ولا الأم الجريئة. جان أنوي دفعها الى الانتحار في ختام النص الذي كتبه وبعض المخرجين دفعوها الى أقصى العنف مجرّدين إياها من بعدها الإنساني. أما غبريال يمّين فلم يشأ أن يقسو عليها فجرّدها من حافز العنف وبرّأها من قتل الولدين. واللافت في المسرحية اختلاق شخصية الخادم في غرفة الفندق الذي كان أشبه بالشاهد الصامت على مأساة هذه المرأة. وليت المخرج لم يدفعه الى الكلام محافظاً على صمته المعبر. وكان يكفي حضوره ليتحول الى أكثر من شخصية في مخيّلة المرأة. لعل بادرة جاد الحاج الى غرس "ميديا" في وحول الحرب اللبنانية فكرة جيدة وباهرة إذ غدت هذه الحرب موئلاً حقيقياً لنشوء شخصية الأم القاتلة والمجنونة والمدمرة، لكن الطابع الأخلاقي الذي أحاط الشخصية جعلها تبتعد عن تجربتها الجحيمية التي لا يمكن أن تنهض من دونها. على أن دارينا الجندي استطاعت بأدائها البارع، الداخلي والمتوتر، الصاخب والصامت أن تجعل المتفرج مبهوراً ومتألماً، فرحاً وحزيناً. فهي كانت تلك المرأة الشرسة كاللبوة والمقموعة كأي "بنت أصل" تحت وطأة التقاليد والمبادئ التي ما زالت ترهق المرأة اللبنانية والعربية عموماً.