نجح المؤسس والرئيس التنفيذي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، كلاوس شواب، في حشد قادة ايرانوتركيا وباكستان والأردن ونائب الرئيس الاميركي للمشاركة في المنتدى هذه السنة، انما فشل في اقناع الرئيس السوري بشار الأسد بضرورة حضوره المؤتمر. القيادة السورية مخطئة في تجنبها دافوس سيما وهي تكلّف آخرين في وساطات مع الولاياتالمتحدة واسرائيل. فالمنتدى شكّل فرصة ذات أبعاد واستفادة متعددة لسورية. الرئيس الايراني محمد خاتمي لم يخش ما تخشاه سورية تقليدياً، اي الاحتكاك باسرائيليين، فخاطب العالم من منبر دافوس وسجل سابقة واجرى اتصالات قيّمة في هذه البيئة الفريدة من نوعها، حيث يتواجد قادة السياسة والأعمال والاعلام لبحث مواضيع بديهية واخرى خلاقة. منتدى دافوس هذه السنة تطرق الى الاصلاحات في المملكة السعودية، والنهضة العربية، ومسألة الهوية والازدواجية في موضوع أسلحة الدمار الشامل، وانقسام أوروبا نحو عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي ومستقبل العراق بتواجد القوات الاميركية، ومصير ايران وسط الأزمة الداخلية الجارية، ونموذج ليبيا لجهة الانقلاب الجذري الذي حدث في قيادتها. وعلى الصعيد العملي، اطلق المنتدى مبادرة "الحوار والعمل والتفاهم" بين العالم العربي والعالم الاسلامي، وصدر عنه توافق رجال الأعمال العرب على انشاء مجلس جديد من نوعه كلياً، وطرح العاهل الأردني الملك عبدالله مبادرة التعليم، وقدم ولي عهد البحرين قائد القوات المسلحة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة أفكاراً عملية لمعالجة أزمة العمالة المستوردة في الخليج وتضمنت إدخال فكرة المدخول الأدنى وكذلك فكرة إلغاء الكفالة. معظم دول الخليج ناشط في منتدى دافوس منذ سنوات وبالذات قطروالبحرين ودولة الامارات العربية. والشيخ حمد بن جاسم آل ثاني وزير خارجية قطر تحدث في ندوات وعقد اجتماعات ثنائية عدة بينها اجتماع مع وزير خارجية اسرائيل سيلفان شالوم الذي قيل انه حمل "أفكاراً في الموضوع السوري - الاسرائيلي". قطر، وليس تركيا فقط، تلعب دور الوسيط بين سورية من جهة واسرائيل والولاياتالمتحدة من جهة اخرى، ولديها أفكار تحيطها بالسرية. سورية، حسبما يبدو، مستعدة للاقدام، إلا انها في حاجة لإيضاحات وتطمينات وبعض الضمانات لجهة محطة الوصول. فهي لا ترغب بمجرد "خريطة الطريق" وانما تريد صورة متكاملة عن الخلاصة والنتيجة. تريدها من الولاياتالمتحدة وليس فقط من اسرائيل. الجهود تبذل لإقناع الاميركيين والاسرائيليين بالعودة الى مبادئ مؤتمر وعملية مدريد للسلام لاستئناف المفاوضات السورية - الاسرائيلية بهدف استكمالها. ليس واضحاً ما إذا كانت سورية قد تخلت عن شرط استئناف المفاوضات "من حيث توقفت"، انما هناك مؤشرات على قبولها بصيغة ما لإطلاق المفاوضات مجدداً. ليس واضحاً ايضاً ان كانت دمشق متمسكة بإصرارها على الانسحاب الاسرائيلي الى حدود 4 حزيران يونيو، أو ان كانت مستعدة للأخذ والعطاء في موضوع بحيرة طبريا. المؤشرات تفيد ان المواضيع المطروحة عبر الوسطاء لا تنحصر في مسألة استئناف المفاوضات الثنائية السورية - الاسرائيلية، وانما تشمل البعدين اللبناني والفلسطيني من ناحيتي حزب الله والمنظمات الفلسطينية الموجودة في سورية. وليس مستبعداً ان تشمل ايضاً البعد السياسي في الملفين، بحيث تطرأ مواقف سورية مهمة نحو تواجدها في لبنان وايضاً لجهة مواقفها التقليدية من القضية الفلسطينية. ثم هناك بالطبع موضوعا العراق والارهاب وحاجة الولاياتالمتحدة لتعاون غير مشروط من سورية في الأمرين. الإدارة الاميركية تريد من الرئيس بشار الأسد ان يأخذ بنموذج الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي كي تبرز جدوى سياسة الحزم والتخويف وتعلن انجازاً آخر لهذه السياسة. الوسطاء ينصحون واشنطن ويحاولون اقناعها، بأن تتخلى عن فكرة "النموذج"، وان تدرك جدوى استعداد سورية للاقدام، ضمن استراتيجية متكاملة، على مواقف غير معهودة تريدها اسرائيل ان تتضمن تصنيف العمليات الانتحارية إرهاباً. في غضون اسبوع أو عشرة أيام، يفترض ان تتوضح المواقف الاميركية من طروحات الوسطاء. فإذا نجحت الوساطة، واذا ضغطت الادارة الاميركية على حكومة ارييل شارون، سيحدث تغيير نوعي في المواقف السورية بعدما حدث تفكير عملي في خياراتها داخل القيادة السورية. الحلقة الأصعب تبقى في الفكر الاسرائيلي الذي لا يريد التخلي عن "انجاز" تحويل المسألة الفلسطينية بكاملها الى مسألة "ارهاب" تتطلب التحالف الاميركي - الاسرائيلي لمحاربته. استئناف المفاوضات مع سورية ليس أمراً مستحسناً عند ارييل شارون، بل ان السلام بحد ذاته يعكر على الخطط الشارونية التي تريد الفوضى والحرب لتطبيق "الترانسفير" للفلسطينيين كي يضمن لاسرائيل البقاء كدولة يهودية. فهذا هو الخيار الوحيد اذا كان لاسرائيل ان تدوم كدولة يهودية. لذلك ان الأولوية لضمان استمرار تعامل الولاياتالمتحدة مع الفلسطينيين من منظور الارهاب وضمان اشتراطها الديموقراطية في المنطقة العربية كشرط مسبق للسلام. وهذا ما أبرزه نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني في خطابه في دافوس حيث قال بوضوح ان السلام غير ممكن قبل قيام الديموقراطيات، فوضعها شرطاً مسبقاً متجاهلاً تماماً مآسي الاحتلال وتجاوزات اسرائيل للقوانين الدولية والانسانية. تشيني تحدث بالطبع عن حزم الولاياتالمتحدة في منع الدول من امتلاك أسلحة الدمار الشامل، بإعفاء تام لاسرائيل من المحاسبة، وما كان لافتاً في خطابه هو تشجيعه الدول على تعزيز القدرات الدفاعية، فبدا وكأنه يسوّق شركات مبيعات السلاح. لغته اتسمت بالتهاون الممزوج بالتهديد. مع أوروبا استخدم لغة المصالحة، انما مع البقعة العربية والاسلامية استخدم لغة التذكير بحزم اميركا وعزمها على استخدام القوة العسكرية، اذا فشلت الديبلوماسية. أجواء دافوس هذه السنة كانت أقل عداء للولايات المتحدة من السنة الماضية، لكنها لم تكن أقل قلقاً من السياسات الاميركية وافرازاتها. وكما في مختلف أنحاء العالم، كذلك في دافوس، دهش الكثيرون لعدم ذكر الرئيس جورج بوش النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي في خطاب "حال الاتحاد"، انما الارهاق من هذا النزاع بدا واضحاً في دافوس. الأكثرية فقدت الأمل بأية عملية سلام وباتت أقل اهتماماً بالمسألة الفلسطينية - الاسرائيلية على رغم الاعتراف بمركزيتها. اهتمامها انصب بدرجة كبيرة على التطورات في المملكة العربية السعودية في ندوات على نسق "ماذا يحدث عندما تقوم السعودية بالاصلاحات" وفي مختلف المجالس الخاصة. مداخلات السعوديين المشاركين في المنتدى انطوت على الإدراك التام لضرورة الاصلاح ولخطورة تجنبه مع الإصرار بأن الاصلاح في المملكة بدأ منذ 70 سنة، فتداخلت نبرة العملية بنبرة الدفاعية. تداخل النفي بالاعتراف. فالأوضاع داخل السعودية وفي علاقاتها مع الولاياتالمتحدة بالغة التعقيد والصعوبة مما أطلق في دافوس حواراً بناء تارة وحوار طرشان تارة أخرى. أحد رجال الاعمال الاميركيين احتج على قول الأمير تركي الفيصل ان المملكة تتقبل النصيحة وفي الوقت ذاته تتمنى ان تتقبل الولاياتالمتحدة ايضاً النصيحة في اطار الصداقة المتبادلة. في اعتباره، هذا موقف "غطرسة"، إذ لا يحق للسعودية ان تضع نفسها على قدم المساواة مع الولاياتالمتحدة. قال هذا دون اي شعور بأن الغطرسة كانت لسان حاله. انما معظم الحديث انصب على سرعة أو بطء الاصلاحات الضرورية بمعنى ايهما أفضل، التدرّجية أو المعالجة الشاملة التطورية. أصعب أنواع الاصلاح في المملكة هو الاصلاحات الاجتماعية نظراً لثقل عبء التقاليد والمسؤولية الدينية المميزة. يليها الاصلاحات السياسية، ثم الاصلاحات الاقتصادية. تقدير العالمين بالوضع الداخلي ان الاصلاح الاقتصادي يتطلب خمس سنوات على الأقل انما بدايته ما زالت بطيئة. تقديرهم ان الاصلاح السياسي يحدث بالسرعة الصحيحة، وربما بسرعة كبيرة. اما الاصلاح الاجتماعي الذي يشمل الاصلاحات القانونية ووضع المرأة وموقع الدين في المجتمع فهذه اصلاحات صعبة جداً. هؤلاء يعتقدون ان الانقلابية خطيرة قد تؤدي الى انفجار أو انهيار داخلي، ويعتقدون ان التدرجية هي الخيار الوحيد. فمقاومة الداخل وضغوط الخارج تهدد بالانهيار والانفجار ما لم تقع الاصلاحات في اطار المعالجة الشاملة الجريئة والانقلابية على مقاومة الداخل وضغوط الخارج. تقطير الاصلاحات ليس الحل وانما فيه حقاً الخطر الكبير. فلا يكفي القول ان السعودية تريد التغيير وان التغيير آتٍ في تطورية وتدرجية، وان الاصلاح يحدث من أعلى الى أسفل ومن أسفل الى أعلى على نار هادئة ضمن اطار قدرة الشعب السعودي على استيعاب التغيير. فإنقاذ السعودية من المخاطر يتطلب الإقدام ضمن استراتيجية شاملة تتطرق الى الاصلاحات الاجتماعية والسياسية كما الاقتصادية، وبسرعة على رغم صعوبة هذا القرار الجريء. وهذا قرار يجب على القطاعات السعودية المتنورة اتخاذه سوية مع القطاع الحكومي. وهنا تبرز مسؤولية رجال الأعمال ونساء الأعمال، ليس فقط في السعودية وانما في المنطقة العربية كلها. وقد برز عنصر مشجع في هذا الصدد اثناء انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس. فقد وضع "مجلس الأعمال العربي" الذي يترأسه رجل الاعمال المصري شفيق جبر، مع المنتدى الاقتصادي العالمي ورقة مفصلة حملت عنوان "أولويات الاصلاح الاقتصادي في العالم العربي" مدونة وجهة نظر القطاع الخاص. هدف المجلس هو تحقيق المشاركة بين الحكومات والقطاع الخاص، وتقدم بمجموعة من السياسات والاجراءات الاصلاحية في شراكة بين الحكومة والمجتمع المدني شملت "التحرير الاقتصادي والاصلاح"، و"الإدارة الرشيدة"، و"تنمية الموارد البشرية". هذه المبادرة لاقت دعماً وتشجيعاً من حكومات عربية عدة ومن الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى. وقد عين الأردن وزير التخطيط، باسم عوض الله، صلة وصل مع المجلس، كما عينت مصر وزيرة الدولة للشؤون الخارجية السفيرة فايزة أبو النجا في موقع التواصل مع المجلس. فهذا تطور مفيد حيث بدأ القطاع الخاص بتحمل مسؤولياته والمشاركة في أعباء الاصلاح الضروري. التطور الآخر المفيد الذي حدث في دافوس هو اطلاق مبادرة بين الغرب والعالم الاسلامي حملت اسم "مجلس المئة قائد" ضم كبار القادة السياسيين ورجال الدين ورجال الاعمال والاعلاميين. يترأس المجلس كل من الأمير تركي الفيصل واللورد كاري اوف كليفتور البطريرك السابق لكانتربري في بريطانيا. أهمية ما صدر عن هذا المجلس هو اجراءات عملية في ميادين المعلومات والاتصال والتبادل والحوار والثقافة، بدلاً من الاكتفاء بمواقف واعلانات. وعملية المجلس المعروف ب"100-2" انطلقت من دافوس، انما محطتها المقبلة ستكون في انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي في الأردن في شهر أيار مايو المقبل. العاهل الأردني، الملك عبدالله، حرص في دافوس على اطلاق مبادرة الأردن للتعليم كونه الأساس في نهضة المجتمعات ومفتاح معالجة البطالة. التعليم والتدريب والكفاءات والاصلاح وادماج المرأة في التنمية عناوين بالغة الجدية في التفكير العربي في هذا المنعطف. وهذا أمر مشجع لأن حديث الديموقراطية يأخذ منحى العملية. المنتدى الاقتصادي العالمي في البحر الميت سيأخذ هذه المواضيع الى عتبة جديدة وسينقل الحوار في شأن مصدر التغيير، من الخارج أو من الداخل، من خانة النقاش الى خانة الأفعال. ولذلك على الجميع المشاركة في هذه النقلة باجراءات عملية بدلاً من التنظير فيها. كلاوس شواب يستحق الشكر والتقدير، أقله لأنه وفر بيئة في دافوس اطلقت رغبة عربية في اصلاح جدي. وعسى ان ينجح الملك عبدالله في اقناع الرئيس السوري بحضور المنتدى في البحر الميت. ففي ذلك فوائد ليس فقط لسورية وانما لجيل الشباب القيادي في البيئة العربية.