يوم كانت الشاشة الصغيرة حلم الكثيرين، و"صندوق العجائب" مثار دهشة الكبير والصغير، سطع نجم أبو سليم صلاح تيزاني وأعضاء فرقته بعد ان شغلوا ليالينا بمقالبهم المضحكة وحكاياتهم الطريفة، معاصرين الفترة الذهب للتلفزيون اللبناني مسهمين في صنع العصر الذهب للكوميديا في لبنان. كان ذلك في فترة الستينات والسبعينات من القرن العشرين، فترة الفورة والازدهار على الصعيد الفني: مشاريع لا تتوقف وحركة مستمرة. أما الحصيلة فتوازي 2250 حلقة تلفزيونية في رصيد أبو سليم وفرقته وحدهم بحسب إحصاءات أبو سليم. و700 حلقة إذاعية فضلاً عن مجموعة من الأفلام والمسرحيات. ويعدّ صلاح تيزاني من أوائل نجوم الكوميديا في لبنان المعاصر. بداياته كانت مع "جمعية كشافة الجراح" في طرابلس التي كانت تقدم عروضاً كوميدية متنوعة وتجول فيها على المناطق اللبنانية، ومنها انتقل سنة 1956 الى "فرقة كوميديا لبنان" التي بدأت تقدّم العروض في تلفزيون لبنان منذ افتتاحه. وهكذا ارتبط اسمه بشخصية أبو سليم وهي الشخصية الوحيدة التي جسّدها طوال مسيرته الفنية في مختلف أعماله. وهو قدّم في التلفزيون مئات البرامج من مسرح "الفكاهة" الذي دام ما يقارب الخمس عشرة سنة الى "سيارة الجمعية" و"المليونير المزيف" و"خلصنا بقا" و"سوا سوا" و"نعمل لأجلكم" و"شي ما بيتصدق" و"الفهم فضلوا على العلم" و"مسامير" و"كل يوم حكاية" 160 حلقة و"فندق السعادة" و"اضحك معنا" و"أبو سليم 2000" و"حكم وأمثال" و"قصص ضاحكة"... وفي الاذاعة نذكر برنامج "ديوك الحي"، الذي ذاع صيته، الى جانب هدى حدادد فضلاً عن "طرائف وأمثال" و"حكم" و"يا كريم" و"ساعة ضحك". ومن أفلامه: "أبو سليم في المدينة" و"رسول الغرام" و"أبو سليم في افريقيا" اضافة الى مشاركته في فيلمي "سفر برلك" و"بنت الحارس" وغيرهما. أما على صعيد المسرح فنذكر مسرحية "المسافر" و"بالوجه مراية" و"طبيب القرية" و"اضحك مع نجوم التلفزيون" و"صعلوك بالوكالة". اليوم وبعد طول غياب لا بدّ من السؤال: أين أبو سليم وفرقته من التلفزيون؟ "نحن موجودون"، يجيب أبو سليم، ويتابع: "عندما بدأنا العمل الكوميدي قبل أكثر من أربعين سنة كنا لا نزال في مرحلة الصبا. أما اليوم فإذا نظرت الى أعضاء الفرقة يتبين لك ان أكثرهم كبر في السن، من هنا لا بدّ من التعامل مع جيل أصغر سناً، جيل تختلف طريقته وأسلوبه في الحياة. لكن هل يعني هذا ان التلاقي مستحيل؟ أبداً والأمثلة كثيرة في العالم العربي من فؤاد المهندس وسمير غانم الى عادل إمام كلهم بدأوا تقريباً في الفترة نفسها التي بدأنا فيها ولا يزالون الى اليوم في قمة عطائهم بسبب تطورهم المستمر مع الزمن. أما إذا رجعنا الى لبنان، هذا البلد الذي لا يتجاوز عدد سكانه الأربعة ملايين نسمة، فالمسألة مختلفة تماماً. كيف نتطور ونستمر في ظل غياب أي انتاج تلفزيوني؟ في الماضي يوم كان تلفزيون لبنان وحيداً في الساحة الاعلامية، كان الممثل في أوج عطائه" إنتاجات كثيرة وأعمال لا تنتهي. والمفارقة الغريبة ان اليوم وعلى رغم تزايد عدد المحطات التلفزيونية اللبنانية التي وصلت الى تسع محطات، نرى الممثل عاطلاً من العمل اذ يغيب الانتاج المحلي عن الشاشة الصغيرة. التلفزيونات باتت تفضل شراء الاعمال الدرامية على انتاجها، مثلاً أخذت محطة تلفزيونية حلقة أحد البرامج التي عرضت في رمضان ب17 ألف دولار بينما كان بامكان أبو سليم وفرقته ان ينفذوا 15 حلقة بالمبلغ نفسه. فهل يمكنك ان تتصوري مسلسلاً كلّف المحطة 500 ألف دولار، إنه مبلغ كان في إمكانه ان يشغّل كل الفنانين اللبنانيين لمدة سنة؟ من هنا أعود وأقول لك نحن حاضرون ولدينا برامج لكن للأسف لا يوجد منتجون جاهزون لذلك". حنين الى زمن مضى بلهجة ملؤها الحسرة والألم يعود أبو سليم الى الزمن الماضي، "فترة العصر الذهب للتلفزيون اللبناني". ويقول: "أين كنا وأين أصبحنا؟ في الماضي كان على أي ممثل عربي يبغي الشهرة والنجومية ان يمر في لبنان وتحديداً عبر تلفزيون لبنان الذي كان منارة كل الدول العربية. مثلاً عندما انطلق دريد لحام، انطلق من تلفزيون لبنان الى الخارج، من لبنان وليس من سورية. والمؤسف ان في حين أضحت سورية في أيامنا هذه ثاني بلد ينتج البرامج الدرامية والاجتماعية والكوميدية، يغيب لبنان عن هذه الخريطة. في سورية شركات انتاج ضخمة وفي لبنان لا وجود لمنتج قادر على المجازفة في عمل درامي واحد ولو كلفه القليل. في سورية دعم من الدولة وفي لبنان لا تعطي الدولة الفنان أدنى حقوقه. أين قانون تنظيم المهنة الذي وعدنا به طويلاً؟ وأين المعاملة بالمثل بيننا وبين الفنانين الآتين من الخارج؟ إذ عندما يصبح هناك قانون ينظم المهنة يتوجب على الفنان الأجنبي الآتي للعمل في لبنان ان يدفع ضريبة للنقابة أسوة بمعظم النقابات في العالم. وأذكر لهذه الغاية حادثة طريفة وقعت مع الفنان إلتون جون عندما أتى الى بيروت وسأل عن النقابة ليدفع ما هو مستحق عليه ففوجئ بالواقع وبأن ليس ثمة من يريد ان يقبض منه فغرق في الضحك. من جهة ثانية هل يجوز ان نذهب لنستجدي أمام وزارة الصحة كل مرة يمرض فيها أحدنا؟ هل يجوز ان يعامل الفنان بهذه الطريقة في بلادنا؟ عندنا تسع محطات لكن "مثل قلتهم"، وعندنا قانون إعلام يحدد ان على كل تلفزيون ان ينتج 80 الى 90 ساعة في السنة ولا أحد يسأل، من هنا مسؤولية الدولة كبيرة في اعادة الاعتبار للفنان". إفلاس ولا يتردد أبو سليم في وصف الساحة الفنية الكوميدية اليوم في لبنان بساحة يحكمها الإفلاس التام ويقول: "ما يعرض اليوم على الشاشات التلفزيونية هو إفلاس كوميدي لا إنتاج كوميدي. فأنا لم أرَ حتى الساعة اي برنامج له علاقة بالكوميديا على رغم ان الممثلين الذين يؤدون هذه الادوار يمكن ان نطلق عليهم لقب كوميديين. والمشكلة هنا تكمن في المادة والموضوع. إذ ما نراه اليوم على الشاشات هو شيء قريب من "الشونسونيه" أو ما يردده "القوالة". وبحق لا أدري ما اذا كان الناس يستمتعون بما يقدم اليهم، اما في ما يخصني لم يستطع أحد بعد إضحاكي كما أضحكت الكثيرين في فترة معينة. والحال ان الاعمال الكوميدية مفقودة من هنا ينطبق على هذا الامر القول السائد: "اذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون". كلها أعمال متشابهة، أبطالها شخصان أو ثلاثة يرمون النكات كيفما كان، ملقين الضوء على عاهات الشخص، لا شغل لهم الا مهاجمة النواب والوزراء. ولا أدري أين المضحك في الأمر اذا كنا كلنا نعرف حقيقة من يحكمنا. من جهة ثانية بعض هذه البرامج يحاول الإضحاك بطريقة مبتذلة وسخيفة، بعيدة كل البعد عن الحياء العام". ويتابع: "اشتغلت كوميديا لخمس وأربعين سنة ولم أقدم مشهداً يؤذي الحياء العام كما لم أتفوه بكلمة خارج الخط. وهذه هي الرجولة، أو ان تكون كوميدياً أو لا تكون". فهل يعني هذا انه لا يوجد اليوم أحد من الكوميديين في الساحة الفنية يمكن اعتباره امتداداً لأبو سليم وفرقته؟ يجيب باستنكار: "لا أحد يحلّ محل أحد. فالموجودون اليوم على الساحة الفنية يحاولون ان يشتغلوا بطريقة معينة، معتقدين ان ذلك سيثمر حتماً نتيجة مرضية. في حين ان الفن الكوميدي مختلف تماماً عما يحاولون تقديمه. كل ما نراه محاولات سطحية لا أكثر". ويذكر أبو سليم أهمية الثقافة الكوميدية في تطور الكوميدي وصقل موهبته. ويقول: "كنت حينما أجد بعض الوقت، أنكبّ على الكتب لأكتشف كيف أضحك الكوميديون العالميون الشعوب. فالكوميدي عليه قبل أي شيء آخر ان يكون مثقفاً". أضحك أبو سليم وفرقته الملايين في عهد مضى فهل أضحى أبو سليم اليوم مجرد ذاكرة وحنين أو لا يزال جزءاً من التلفزيون؟ على الفور يجيب: "يصبح الانسان ذاكرة عندما ينتهي، وطالما لا يزال هذا الانسان موجوداً يكون في استطاعته ان يعطي أكثر وأكثر. لكن ما العمل في غياب الانتاج؟ كان عندنا تلفزيون لبنان مضخة تنتج الاعمال تلو الاعمال واليوم ماذا؟ لا شيء". فهل هذا هو العائق الوحيد أو كما يردد بعض من ان أبو سليم وفرقته ينتميان الى زمن ماضٍ جميل؟ يجيب أبو سليم: "منذ خروج الكوميديا في العالم، في وقت سوفوكليس وأرسطوطاليس وامتدادها مع موليير ولابيش وغولدوني وغيرهم، مروراً بالكوميديا ديل آرتي لم تتغير الكوميديا إنما الطريقة هي التي تغيرت. اليوم عندما يشاهد ابني مثلاً شارلي شابلن يتعجب كيف كنا نضحك على بعض المواقف كونها أضحت من البديهيات في الزمن الراهن مع التقدم التكنولوجي. من هنا لا يجوز ان نبقى في السياق نفسه الذي كنا عليه منذ أربعين سنة لسبب بسيط: الحياة في تغير مستمر والكوميديا تعبر عن الزمن الذي تكون فيه. هذا لا يعني انه اذا أتينا بشخص من ذاك الزمن سيفشل حتماً في الزمن الراهن، اذ كل الامر يتوقف على تطور المرء أو وقوفه مكانه. ونحن بدورنا نحاول ان نواكب كل جديد. مهما يكن من أمر يوجد اختلاف شاسع بين الفن القديم والفن اليوم. في الماضي كانت السمات الأساسية هي الاخلاص والصدق أما اليوم وللأسف بات الفن تجارة لا أكثر ولا أقل".