تظهر بوادر القلق الذي يراود "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" على مصيرها بعد بلوغها "سن الأربعين"، من مشهد "العزلة" التي توحي بها تلك الأبواب الحديد الموصدة على مداخل مبناها الكائن في أحد متفرعات شارع فردان... شارع تسوق الطبقة الميسورة في لبنان. بل ان وجود المؤسسة في ذلك المكان يبدو متناقضاً مع وظيفة الشارع! والمبنى الذي تملكه المؤسسة الى جانب مكتب في واشنطن، يقصده اليوم صحافيون أجانب وأساتذة جامعيون وديبلوماسيون جلهم من سفارات دول أوروبا الشرقية وأحياناً بعض الطلاب وضباط في الجيش اللبناني... للاطلاع على أرشيف مكتبة المؤسسة الغني بالوثائق والصور النادرة لفلسطين بهدف اعداد أطروحة أو تقديم أوراق تساعد على ترقية أو تصوير مقالات. وثمة من يأتي لقراءة الصحف الاسرائيلية الصادرة باللغة العبرية والتي تملك المؤسسة ترخيصاً من الحكومة اللبنانية بإدخالها الى لبنان لمصلحتها. غير ان ذلك لا يمثل الشيء الكثير في نظر القيمين على المؤسسة، الذين يعترفون بتراجع كبير في البلدان العربية عن البحث في القضية الفلسطينية في وقت يرصدون اهتماماً متزايداً لدى أميركيين وفرنسيين، بإنتاج المؤسسة. هذه المفارقة تخلق لدى أولئك القيمين شعوراً بالاحباط وخيبة الأمل، وخصوصاً انها تأتي استكمالاً لتخلٍ بدأ في العام 1990 وتعزز بعد احداث 11 أيلول سبتمبر. ذلك ان "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، التي تعتبر أول هيئة عربية علمية مستقلة خاصة أنشئت عام 1963 للعناية حصراً بالقضية الفلسطينية، والصراع العربي - الصهيوني، تجد نفسها اليوم، كما يقول القيمون عليها، "محاصرة من العرب أنفسهم ومن صنمية الخطاب داخل الهيئة الإدارية للمؤسسة"، حتى ان الأمسية التي أحياها الشاعر محمود درويش والفنان مارسيل خليفة في قاعة "أونيسكو" احتفالاً بذكرى التأسيس الأربعيني للمؤسسة، بدت للبعض "إحراجاً للمؤسسة التي ما اعتادت الكلمات الخطابية ولا الاستعراضية"، ووجد فيها "خروجاً عن تقليد يخشى منه ادخال المؤسسة في أزقة الزمن السائد". كان ثلاثة من رجال الفكر المقيمين في بيروت، الدكتور قسطنطين زريق والدكتور وليد الخالدي وبرهان الدجاني، أصحاب فكرة انشاء المؤسسة عقب نكبة 1948، على اعتبار ان الصراع مع الصهيونية "طويل المدى وليس عسكرياً فقط وإنما له طابع فكري حضاري وتاريخي". وتمكن المؤسسون من الاستحصال على "علم وخبر" من وزارة الداخلية اللبنانية بإنشاء "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" كجمعية لبنانية، بتاريخ 12 كانون الأول ديسمبر 1963. وساهمت المناخات التي كانت سائدة في بيروت آنذاك وتحديداً في الجامعة الأميركية، التي شهدت تنامي حركة القوميين العرب، في اتساع نطاق التشاور في شأن المؤسسة ليشمل: الدكتور نبيه فارس وسعيد حمادة والدكتور ادمون رباط والدكتورة نجلا أبو عز الدين والدكتور فؤاد صروف وموريس الجميل ووداد قرطاس ولاحقاً الرئيس شارل حلو وفي مرحلة لاحقة بيار اده. وتمكنت المؤسسة في العام 1966 من اصدار سلاسل توثيقية ودراسية شكلت، الى جانب البدء بإنشاء المكتبة التي تعتبر الأهم في العالم العربي للهوية والتراث والذاكرة الفلسطينية، ركيزة العمل البحثي المستقبلي. وابرز تلك السلاسل: سلسلة الكتاب السنوي للقضية الفلسطينية وسلسلة الوثائق الفلسطينية العربية وسلسلة قرارات الأممالمتحدة في شأن فلسطين والصراع العربي - الاسرائيلي وسلسلة الوثائق الفلسطينية الدولية. وحتى نهاية العام 1970 كانت المؤسسة اصدرت بالعربية والانكليزية والفرنسية ما يفوق 70 مجلداً من ضمن هذه السلاسل. ويقول مدير مكتب المؤسسة في بيروت محمود سويد ان توجهها "كان من البداية نحو النخبة المثقفة، وتمكنت على مدى أربعين عاماً من حفظ القضية الفلسطينية تاريخياً وعلى مستوى علمي، وخلال فترة نموها 1971 - 1981 أصدرت نشرة متخصصة برصد الشؤون الاسرائيلية والصهيونية من المصادر العبرية فكانت أول نشرة من هذا النوع في الوطن العربي وأصدرت مجلة بالانكليزية Journal of palestine studies وأضيفت الى سلسلة الوثائق سلسلة محاضر الكنيست وسلسلة المؤتمرات الصهيونية مترجمة من المصادر العبرية، وفي العام 1981 أصدرت المؤسسة مجلة بالفرنسية Revue dصEtudes Palestiniennes. وبدأت خلال هذه الفترة تنظيم الندوات العالمية لمعالجة قضايا أساسية، منها مثلاً "ندوة آفاق الصراع العربي - الاسرائيلي في الثمانينات - 1980" و"ندوة القضية الفلسطينية والخليج - 1981". ويستشهد سويد بتعليق لأحد المؤرخين الاسرائيليين حينما راجع مجلة المؤسسة بالانكليزية وقال: "ليت عندنا في اسرائيل مجلة بهذا المستوى". وكان الاجتياح الاسرائيلي لبيروت 1982 ادخل المؤسسة في مرحلة شديدة الخطورة وكثيرة التحديات، اضطرت المشرفين عليها الى اتخاذ تدابير قاسية لمواجهتها. ودفع الغزو المجلة الصادرة بالفرنسية ومحرريها الى الرحيل الى باريس والمجلة الصادرة بالانكليزية ومحرريها الى واشنطن، فيما استمر مكتب بيروت بالعمل وسط ظروف صعبة عليه كما على كل اللبنانيين والمقيمين في لبنان آنذاك. ولم يسجل المكتب على نفسه الاقفال الكامل الا خلال الفترة التي احتل فيها الجيش الاسرائيلي بيروت 15 - 25 أيلول 1982. وكانت طوابق مبنى المؤسسة دججت بأكياس الرمل خوفاً من أي حريق، وأخليت المكتبة من المقتنيات والوثائق المهمة والنادرة وأودعت في أماكن آمنة. وفي 21 أيلول دخل عدد من ضباط الجيش الاسرائيلي وجنوده مبنى المؤسسة حيث هو اليوم، وتنقلوا في طوابقه وختموا مدخله بالشمع الأحمر لدى خروجهم منه، فيما رابضت دبابتان عند مدخله. واضطرت المؤسسة الى انشاء مكتب في قبرص لإصدار المنشورات العربية موقتاً ولاستقبال مقتنيات المكتبة من كل أنحاء العالم. كما اضطرت، تحت وطأة أحداث تلك الفترة، الى ايقاف معظم السلاسل فيما استمرت نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية في الصدور حتى نهاية العام 1988 لتحل محلها ابتداء من أول عام 1990 مجلة "الدراسات الفلسطينية". انتهت الحرب في لبنان، واستقرت المؤسسة على هيكلية جديدة، مكتب بيروت المقر والمكتبة يصدر كتباً ومجلة الدراسات الفلسطينية بالعربية ومكتب واشنطن يصدر مجلته وكتباً بالانكليزية وينشط في الوسط الأكاديمي والإعلامي الأميركي، ومكتب باريس يصدر مجلته وكتباً بالفرنسية وينشط في الوسط الثقافي والإعلامي الأوروبي. وخطت المؤسسة خطوة جديدة عبر انشاء مكتب في القدسالشرقية عام 1995 باسم "مؤسسة الدراسات المقدسية" وعبر انشاء موقع لها على الانترنت www.palestine-studies.org. وتسجل المؤسسة لنفسها انجازاً من خلال تولي جامعة كاليفورنيا طباعة مجلتها بالانكليزية وتوزيعها من دون التدخل في تحريرها، على رغم اعتراض عدد من الأساتذة اليهود في الجامعة والذين عادوا عنه بعدما اعترفوا للمجلة "باستقلاليتها" عن منظمة التحرير الفلسطينية و"تعاطيها مع المواضيع بموضوعية وعلمية". وإذا كانت المؤسسة اعتمدت حتى العام 1990، في تغطية مصاريفها، على التبرعات التي كانت تردها من مصادر عربية حكومية خاصة ومن جامعة الدول العربية. وتمكنت قبل هذا التاريخ من انشاء "وقفية" بفضل تبرعات عربية وعملت على تنميتها طوال سنوات كي تلجأ اليها عند الحاجة، فإن مصادر التبرع ومنذ النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي، راحت تتساقط تباعاً الى ان توقفت بعد الاجتياح العراقي للكويت عام 1990 باستثناء بعض التبرعات المتفرقة. واستقرت ايرادات المؤسسة في السنوات الأخيرة على ما يراوح بين 500 و600 ألف دولار سنوياً نصفها من ايرادات مبيع منشورات المؤسسة، بينما ازداد الإنفاق بسبب الارتفاع المستمر في أسعار المواد والخدمات، بما فيها الرواتب. واستقر الإنفاق على نشاط المؤسسة في السنوات الأخيرة على نحو مليونين و600 ألف دولار في السنة، ما أدى الى عجز سنوي قدره مليونا دولار وكان حتى تدهور الأسواق المالية العالمية، يغطي من ايرادات الوقفية في السنين السابقة. الا ان خفض قيمة موجودات الوقفية وتراجع ايراداتها بسبب تدهور الأسواق المذكورة واستمرار السحب منها لتغطية عجز الموازنة، أديا الى وصول الوضع المالي للمؤسسة الى درجة حرجة. ويعتقد سويد "ان الخط الذي سلكته المؤسسة على مدى 40 سنة حماها من عثرات كثيرة، والتبرعات غير المشروطة التي كانت تتلقاها أمنت لها الاستقلالية اللازمة كمركز للأبحاث والدراسات. لكن هذه الحماية كان لها ثمن، فالمؤسسة آلت على نفسها الاهتمام بالقضية الفلسطينية من دون الالتفات الى الأوضاع في الدول العربية، وإذا كانت القضية الفلسطينية بحاجة الى كل امكانات العرب وليس الفلسطينيين فحسب، فإن الأمر كان يستدعي أنظمة عربية ديموقراطية وطنية غير فاسدة، أنظمة تستطيع حماية القضية". وتجربة المؤسسة مع الأنظمة العربية تجلت في الانكفاء الفاقع للتمويل الخليجي، وخصوصاً الكويتي بعد غزو العراق للكويت. ولم يقتصر الأمر على وقف التمويل، بل منع انتاج المؤسسة من دخول دول الخليج، ولم تنفع المراجعات من جانب أعضاء في مجلس ادارة المؤسسة، وهم من دول خليجية، لدى سلطات بلدانهم في معالجة الوضع. ولا تقتصر مشكلات المؤسسة على التمويل، فثمة مشكلة في مخاطبة الأجيال الجديدة، ويعتبر سويد "ان المجموعة المؤسسة صنعت مؤسسة على مثالها ولم تسمح بالقدر الكافي من التجديد ولا بدخول عناصر شابة تواكب حركة الأجيال والتطور، فبقي طابع المؤسسة تاريخياً وهو مهم جداً، لكننا نكاد نكون قد توقفنا في التاريخ ولم نتخطه الى المستقبل". فالمؤسسة عجزت، كما يقول سويد، "عن تشكيل رؤية مستقبلية، وهيكليتها والتقاليد الراسخة في سلوكها تشكل عقبات أمام انضمام باحثين من الجيل الشاب يواجهون الأمور بمنطق مختلف". ويشير الى ان في الولاياتالمتحدة الأميركية "شباباً عرباً من طلاب وأساتذة لديهم الشجاعة لمخاطبة الأميركي بلغته وليس انطلاقاً من عقدة العربي". ولا يخفي سويد ان "الصوت الآخر" داخل المؤسسة "بدأ يتعالى وينبه الى ان البقاء في السياق نفسه يؤدي بالمؤسسة الى الاحتضار". ويتوقف عند مفارقة ان "المردود المالي للمؤسسة يعود من بيع الانتاج في أميركا وليس في الدول العربية، ونجد ان الطالب الأميركي معني بالقضية الفلسطينية أكثر من الطالب العربي... ثمة أسئلة كثيرة عن واقع الحال الذي وصلنا اليه، ومعالجة التردي بحاجة الى امكانات غير متوافرة. ونحن الآن مضطرون الى ايقاف مجلات. في أميركا أوقفنا انتاج الكتب وكذلك في باريس، وإذا كنا ما زلنا نصدر كتباً باللغة العربية، فنتيجة تعاقد حتى العام 2001 وما بعد هذا التاريخ لا يوجد أي اصدار جديد. فالانتاج الجيد يتطلب تفرغاً من صاحبه لثلاث سنوات كنا نغطيه ب50 ألف دولار". بالموازنة الحالية وعملية عصر النفقات، تستطيع المؤسسة العيش لمدة سنتين والقلق يزداد مع تدني عدد الممولين خوفاً من اعتبار أن أموالهم تذهب الى مؤسسة "ترعى الارهاب" في ضوء مفاعيل احداث ايلول 2001. وعليه، فإن أمام مجلس الأمناء في أيار مايو المقبل خيارات محدودة احلاها مر: اغلاق مكاتب أو ايقاف اصدار المجلات... فما الذي يبقى؟