يكتب فرهاد شاكلي شعراً خصوصياً يتفرد به عن غيره من الشعراء الأكراد. هو يركن إلى الشعر كحالة داخلية بعيداً عن ضجيج الخارج. يحفر للشعر دروباً تتغلف بالصمت. هذا شعر يحتفل بالسكون لا بالصراخ. بالصمت لا بالهتاف. تنبني العلاقة بالشعر كحالة جوّانية تتهيأ من حميمية اللقاء بين الشاعر وذاته القلقة. يبدو فرهاد شاكلي كطائر يغرد خارج السرب. هو بالأحرى كذلك. الشعر عنده همس خفيف مع العيش ومداعبة رقيقة للكتابة. ليس من أثر هنا للصخب الذي يطغى على الشعر الكردي ويجعل منه حمّالاً لغايات بينها وبين الشعر مسافات. ولكن من غير الممكن القول أن فرهاد شاكلي شاعر منعزل، منطو على ذاته، جالس في برج عالٍ، مقطوع الصلة بمن وما حوله. هو عكس هذا. وسواء في كتابته أو في عمله كأستاذ للغة الكردية في جامعة أبسالا بالسويد، فإنه منخرط في أحوال البشر ومشاغل الكائنات. وهو إذ يمدّ نظره نحو الخارج فإنه يراقب ويتأمل. ولكنه يضغط انفعالاته. يدخل في حوار داخلي مع نفسه. يذهب إلى القصيدة لتكون نافذة للإطلال على العالم. تكون الكلمات هنا حبلاً سرّياً يرتبط بالآخرين من دون أن يثير فيهم ما يحرّض. كأنه يستأنف صمتاً أبيض بالكلام وقد تناثر على الورق. الانشغال بالقضايا الكبيرة، خارج النطاق الشعري، يتكاثف ليتحول إلى وجد شبه صوفي بما تنطوي عليه تلك القضايا من بذرة أولية يختبئ فيها القلق. يلتزم الشاعر، في عمله، بانشغالات المجتمع ويلتصق بهموم الآخرين، وهؤلاء جماعات من قومه أو دينه أو شلة أصدقائه أو زملائه، غير أنه يمتنع عن الذوبان في كل ذلك. هو لا يفقد وجهه وصوته وأنينه الداخلي الخاص. ولا يدع اليقينيات الجمعية تتغلغل إلى نصه. نصه ملكه الخاص. حنينه إلى المجهول، نوستالجياه الأبدية لنشوة الشعر التي تنزل في اليوميات الصغيرة من خلال عدسة الشعر الغامضة. في كثير من كتاباته في مسائل السياسة والهم القومي الكردي وشؤون الثقافة والاجتماع يلتصق الكاتب، وقد ترك الشعر في زاوية معتمة، بما يؤلف شبكة من المواضيع التي تشغل باله. يقاربها، يبدي رأيه فيها، يشتط أو يلين، يغضب أو يهدأ، ويفعل كل ذلك بأدوات ناشط متحمس. فإذا ما فرغ مما بين يديه وعاد إلى زاوية الشعر التجأ إلى الهدوء والصمت. يحاول فرهاد شاكلي أن يؤسس لذائقة شعرية كردية جديدة. ويسعى هذا التأسيس إلى إنقاذ الشعر من رطانة الإدعاء وجمود الكليشهات الراسخة. في قصيدته نشدان لتجاوز المألوف وتخطي النمط. أن تكون ناشطاً قومياً، أو يسارياً، أو دينياً، شيء. وأن تكون شاعراً شيء آخر. الشعر ليس مهمة قومية. هو ليس برهان أو مرافعة أو أطروحة أو بيان. إنه كشف نقاب عما هو مضمر في أعماق الأشياء جميعاً. تدفعنا كتابة فرهاد شاكلي إلى إعادة النظر في كثير من الركام الذي يسمى شعراً كردياً. يتبين لنا أن ضرورة احترام اللحظة الشعرية، الحقيقية، تقتضي تفحص هذا الركام الكثير بمجس التذوق الجمالي والعذوبة الفنية بعيداً عن هاجس الاستجابة لرضا الجماعة ودغدغة خاصرتها الجياشة أبداً. ينتمي فرهاد شاكلي إلى جبل الأسماء الكبيرة في الشعر الكردي المكتوب في كردستان العراق. وهو كان واحداً من أركان جماعة المرصد التي سعت في القيام بقفزة تجديدية. وإذا كان معظم الشعراء الكرد، هناك، انجرفوا في نزعة التبشير في حماسة قومية غلبت كل شيء آخر فإن فرهاد شاكلي آثر إنقاذ الشعر من حمولات الخطابة والنشيد. وهو أسعف القصيدة الكردية بأن حررها من شظايا البلاغ القومي والبرنامج السياسي والشعار الثوري. بهذا المعنى فإن كتابة فرهاد شاكلي، الشعرية، هي تكثيف وتعميق لأصفى جوانب النص الشعري الذي أنجزه مجايلوه مثل شيركو بيكه س وعبد الله بشيو ولطيف هلمت وتوفيق صابر. ويمثل هؤلاء مفاصل فعلية في سيرورة الشعر الكردي الحديث، وتتوافر نصوصهم على لقطات غنية يفلح فيها المضمون في أن يذوب في تربة شعرية خصبة ومؤثرة. غير أن هذه اللقطات كادت أن تختنق من أثر طغيان الهمّ المباشر في مظاهره السياسية والخطابية وتوسلاته أدوات التهليل والتمجيد والتنديد والتبليغ. ليس ما يكتبه فرهاد شاكلي كلاماً سردياً مجرداً. ليست ثمة فذلكات شكلية أو استعراضات لغوية أو ألاعيب بهلوانية تشتق من إغراءات مزاعم الحداثة. هو لا يركب مطية الإدعاء بالخوض في ما وراء حدود القصيدة المألوفة، المنظومة أو الحرة، القريبة من النفس إلى حد التقليد. ولكنه، مع ذلك، يفلح، وقد ملك أدوات النص الشعري وحظي بيد رحيمة من بصيرة شاعرية، أن يعلو عن المباشر ويرتفع عن السائد. هو بهذا المعنى شاعر حديث، أو حداثي، إذا شئت. شعره لا يناسب ذوق الجمهور العام، من دون أن يعني هذا أنه بعيد عن السياسة والاجتماع بالناس والقوم. هو قريب من كل هذا، وهو ينفعل بهذه المنظومات. يشدّ معها الوثاق. يرتبط بها بشغف. ولكنه يكتب، على صعيد الشعر، بعد أن يحرر الأشياء من بعدها الحدثي، الوثائقي ويضعها في موشور المدى الشعر الملوّن. من جرّاء ذلك تلوح واقعة مأسوية في كردستان، وما أكثرها، فاجعة سرمدية وتغور في النفس عميقة أنّى كانت وأياً كانت. وبالمثل يظهر الكائن الفردي كوناً قائماً بحاله. فهو ليس تجريداً رقمياً ضائعاً في تلافيف جماعة هجينة الملامح. ثمة نفس حائرة لكائن قلق. ثمة تعلق وجودي بأهداب الحيرة. هكذا تبدو القصائد وكأنها أفكار أو رؤى مكثفة. كأن الأمر يتعلق بحكم وتأملات دونها الشاعر بعد أن تمعن في ما وراء الأشياء وأغمض عينيه لينظر إليها بعيني بصيرته. ليس غريباً، والحال هذا، أن تتسرب إلى النصوص لمسات صوفية وشطحات وجدانية وإحالات شعورية إلى شعراء الوجد والعذاب في التراثين الفارسي والعربي. أصدر فرهاد شاكلي حتى الآن ست مجموعات شعرية. ديوانه الأخير "أسراري واضحة وضوح سر"، يتوزع بين قصائد رومانسية حالمة وتمعن وجودي في مغزى الكينونة فضلاً عن قطع نثرية كثيفة تنقل إلى الورق نظرة فاحصة في ما يلقاه المرء في يومه. يأتي الديوان للانهماكات التي ما برحت تجرّ الشاعر وتشده إلى وتد الكتابة. كلما لاحت فرصة تدوين الكلمات لا يبقى هناك تردد في نقل المشاعر إلى الورق. في البيت، في غرفة بفندق بعيد في بلد ناءٍ في خضم رحلة. في بدايات النهار أو في الهزيع الأخير من الليل. الجملة الشعرية التي يجترحها فرهاد شاكلي قصيرة، مضمخة بالقول حتى لتكاد تنفجر. لا مكان للزوائد والنوافل والحواشي والزخارف. تأتي الكلمة عارية، مكتفية بنفسها، من غير حاجة إلى أوصاف أو إضافات. فكأن الكلام مقطّر، كأنه ماء صاف يجري نحيفاً، رقيقاً، ولكن حاسماً. قوة الجملة وطاقتها الإيحائية لا تبددان الإيهام بل تعملان على رفعه إلى مقام غموض مقصود حافل برؤية متعددة الجهات. فالعشق ليس وضوحاً بل هو التباس. والحنين ليس عذاباً بل هو ترقب مشدود إلى الفرح. لا تعرف إن كان الشاعر يقصد كائناً إنسياً أم أنه يفصح عن عشق إلهي حين يناجي مخاطباً بقوله أن النجوم، في هذه البلاد، تلهج باسمه. وما الذي يرمي إليه عند الحديث عن سعيه لقراءة صمت الحجر في كتاب الأسرار. تتوزع الرموز والإشارات على نواح مختلفة حتى تبدو وكأنها تتعارض وتتناقض. من أقرب ملامسة للواقعة اليومية وصولاً إلى وجد متعالٍ في رحاب مناجاة غارقة في الغيب. هي إشارات معقودة للنطق في حضرة من يتواطأ مع ذخيرة الشاعر ومقاصده، ومن كان مهيًأ للذهاب في سفر منهك صوب عوالم الشقاء الروحي آتياً من ذكرى الحلاج أو ديك الجن الحمصي بلغة الروح. فالشاعر يتكلم بلغة الوجد والوله، يتحدث عن "شتاء الروح" و"خمارة مدينة العشق". كأن الشاعر يردد، من حيث يقصد أو لا يقصد، قولة الحلاج: من لم يطلع على إشاراتنا لا تهديه عباراتنا. فالإشارات هنا معقودة الطرف على العبارات في شكل لا ينفصم عراهما. ترتبط بدايات الكلام بالنهايات في شكل دائرة سحرية تعود في كل مرة إلى نقطة العدم. ثمة قاموس يكاد يكون خاصاً بالشاعر. عبارات وإضافات كلام ومفردات تملك حضوراً فريداً تنتزع به معاني ودلالات. صدى القلب، كما يقول الشاعر في قصيدة، أشبه بنداء بلال العشق يطلع من منارة مسجد قديم. يحفر فرهاد شاكلي، بصمت وبطء، درباً للشعر الكردي محفوفاً بالمشقة. ولكنه دربٌ يفضي إلى دهشة موعودة. فالشعر يكمن هناك، في الدروب التي نحفرها بعيداً عن الأنظار، نحو الأسرار والغموض وسحر المجهول. يحمل الشاعر وجهين، مثل جانوس. وجه ينظر إلى الراهن، اليومي، المعيوش، فيتمعن في المجريات ويخالط الوقائع ويباشر السعي مع الساعين في الحياة الدنيا، ووجه آخر يمضي بعيداً إلى آفاق تشرق فيها شمس أرجوانية تتراقص مع أرواح من رحلوا وتركوا كلاماً حافلاً بالألغاز. وجهان: وجه كائن يومي ووجه شاعر. يمضي الأول في دأب اليوم ويلبث الثاني متمعناً في ديمومة العتمة من حول شمعة. يبدو فرهاد شاكلي وكأنه يكتب لقارئ لا ينتمي إلى الحاضر ولا يسكن المكان. يكتب لزمن آخر. زمن يأتي أو أنه انقضى وزال. ولكنه في الأحوال جميعاً يعطي للشعر الكردي صوتاً لا يسكنه الصراخ والكلام الهادر.