لم يكد الروائي عبدالرحمن منيف ينهي السبعين من عمره حتى وافاه الموت صباح أمس في دمشق، المدينة التي كانت ملجأه الأخير، بعد حياة ملؤها التنقل بين بلد وآخر. راجع ص16 كان عبدالرحمن منيف روائياً عربياً بامتياز. وكان يأنس كثيراً للصفة العربية التي اطلقت عليه وعلى تجربته الروائية الرحبة. فهو الذي ولد في عمّان 1933 من أب سعودي وأم عراقية ما لبث ان انتقل الى بغداد ثم الى القاهرة فإلى دمشق فبيروت... مروراً بعواصم غربية أمضى فيها أوقاتاً طويلة. ولم يكن منيف ليشعر بالغربة في اي مدينة عربية، هو القومي العربي الذي التزم فكرة "البعث" فترة غير قصيرة من حياته، بل كان يلج الحياة السياسية في كل مدينة معتبراً نفسه ابن هذه المدينة بالروح والقلب، ويناضل في صفوف ابناء تلك المدن، سياسياً وقومياً ووطنياً... وكان لا بد من ان ينعكس الانتماء السياسي والقومي لمنيف على أعماله الروائية. فإذا بها تتخطى الاقليمية الضيقة، لتخاطب الانسان العربي حيثما كان، منفتحة على الخريطة العربية، مشرقاً وخليجاً. وإذا بالمكان لديه فسحة مشرعة على فضاء الصحراء وهواء دجلة والفرات وبردى والاردن... روائي عربي يعالج هموم الانسان العربي، السياسية والاجتماعية والوجودية، وقضايا المثقف العربي المضطهد والمقموع، والازمات المتلاحقة التي حلت على العالم العربي والهزائم التي توالت منذ النكبة حتى النكسة وما تلاها من مآسٍ في الحياة العربية. وإن كان منيف بدأ واقعياً في روايته الاولى "الاشجار واغتيال مرزوق" 1973 فهو ما لبث ان فتح نافذة على التاريخ، فكتب الكثير من الاعمال ذات الهم التاريخي. الا انه لم يلجأ الى المادة التاريخية ليكتب روايات تراثية بل سعى الى قراءة الواقع عبر مرآة التاريخ، مستخلصاً العبر الكثيرة التي تخدم الانسان المعاصر. عاد منيف الى التاريخ ليفضح الواقع في ضوئه، وليكشف الكثير من المعالم المجهولة او المتجاهلة. وليس غريباً ان تكون عودته هذه شبه "اشكالية" كونها ارجعت الى المعترك السجالي مفاهيم عدة ترتبط بالانسان والبيئة والجماعة. ولعل اللافت في مسار منيف تأخره في دخول عالم الرواية. فهو أصدر روايته الاولى "الاشجار واغتيال مرزوق" في الاربعين من عمره، وكان أمضى مرحلة الشباب مناضلاً سياسياً وكاتب مقالات و"رفيقاً" بعثياً وقومياً عربياً. وليس مستهجناً ان يأتي منيف الفن الروائي من الالتزام السياسي والبعد الايديولوجي، لكن السياسة والايديولوجيا لم تهيمنا على نزعته الروائية ولا على فنه السردي. فكان ماهراً في نسج عالمه وشخصياته وفي حبك الوقائع والدمج بين الوثائق التاريخية والتخيل الخلاق. واستخدم كل ما توافر من تقنيات روائية وعناصر سردية: كفن الراوي ولعبة الضمائر والحوار والحوار الداخلي والتوازي والتقطيع الزمني والمشهدي... لكن الروائي المترسّخ في الادب العربي لم يشأ ان يغالي في التجريب، مثلما فعل بعض الروائيين الذين جايلوه، بل اصرّ على ان يكون اصيلاً في تجربته، حديثاً ولكن عبر رؤية خاصة الى الحداثة، الحداثة البعيدة عن التصنع والشعار والزيف. ومَن يقرأ رواياته الكثيرة بدءاً ب"النهايات" و"قصة حب مجوسية" وانتهاء بخماسية "مدن الملح" وثلاثية "أرض السواد"، يلتمس لدى هذا الروائي تأنيه في الكتابة واسترساله ورحابة افقه. وأعماله الخماسية والثلاثية هي اقرب الى الفن الملحمي بنَفَسها الطويل والمتوالي وبأحداثها المتواصلة ووقائعها المتداخلة. ومثلما احب منيف التاريخ احب ايضاً سيرة المدن فكتب عن عمّان وبغداد وسواهما كما لو انه يكتب سيرته وسيرة المكان العربي في آن واحد. كان عبدالرحمن منيف روائياً عربياً بل روائي العالم العربي، بهمومه وقضاياه، بأوهامه وأحلامه، بخيباته وآماله. ولم تكن اعماله ذات المنحى العربي الشامل الا صورة عن حياته التي دمجت بين الإقامة والمنفى، بين الانتماء العربي والانفتاح على ثقافات العالم.