في السعودية جدل مثير حول مقررات التعليم - كجزء من مراجعة الفكر الديني والتنموي - يتجه بهدوء حيناً وصخب أحياناً نحو العمق، ليلامس مسائل كثيرة في أصول الاجتماع السياسي والمدني في السعودية. بيد أن هذه المسائل لا تطرح دفعة واحدة، بل تتدرج بحسب انفتاح المناخ السياسي والمدني في المملكة، وربما كانت هذه إحدى مزايا الحوار الواسع النطاق الذي تفجر بعد الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001. وإذا أردنا تحليل الجدل الحالي حول المقررات فسنكتشف وراءه المضمر، الكبير وهو أصول الاجتماع السياسي والمدني في السعودية. قبل سنوات أربع اشتبك الإسلاميون مع ذوي الميول الليبرالية عند صياغة التقرير النهائي للمشروع الوطني لتقويم المسيرة التعليمية في جميع مراحها وفروعها، التعليم العام والجامعي والمهني والعسكري، فقد توارى التقرير - على رغم الأهمية المصيرية في قضايا البطالة والاستقرار الاجتماعي والسياسي - عن الأنظار ليتلاشى في دهاليز البيروقراطية ليستقر في مجلس الشورى، كان أهم ما في التقرير محل إجماع تام، فقد اتفق الفريق المكون من أربعين خبيراً على توجيه التعليم ليواكب متطلبات السوق، وتقنين إلزامية التعليم، وتوسيع التعليم المهني والتقني. لكن الفريق اشتبك في مسائل رمزية لدى طرفيه، لا تشكل أهمية كبيرة، على الهدف الأساسي للمشروع، فطالب الإسلاميون بالتوسع في مدارس تحفيظ القرآن الكريم، على رغم أنهم يوافقون على أن تحفيظ القرآن من النوافل وأن تهيئة خريجي نظام التعليم للعمل واجب شرعي على الكفاية، وطالبوا بالنص على منع الاختلاط في التعليم على رغم أن تشريعات التعليم تمنعه، وأصروا على المحافظة على كمية الوقت المخصص للدين واللغة العربية، مع أن كمية الوقت ليست عاملاً حساماً في التأهيل الديني واللغوي، إذ يمكن تطوير كفاءة هاتين المجموعتين بتطوير طريقة تقديم مضمونهما لتحقيق منفعة حدية أعلى - كما يقول الاقتصاديون - دينياً ومدنياً، للحفاظ على تعليم ديني كفء وتأهيل للعمل مواز له حتى لا تذهب البطالة بالدين والخلق. وهكذا كانت القضية الخلافية قابلة للحل لو توافرت نوايا للتعاون المشترك بدلاً من المواجهة، وكان إصرار الجانب الآخر على مسائله الرمزية حافزاً للمواجهة بطريقة مماثلة فخسر الوطن سنوات أربعاً، ولا نعلم حتى الآن متى وكيف ستنتهي توصيات التقرير إلى الميدان لنستنقذ أولادنا من عقم التأهيل العملي الحالي. جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول لتكشف لنا مشكلة أخرى، ذلك أن الصياغة التعبوية للمقررات في فقه العلاقة بالآخرين قد نسجت بنوع من السذاجة والتغافل عن المحيط العام، فجاءت بنوع من الفجاجة مضطربة في منظورها العام تقول الشيء ونقيضه، ويخيل إلى دارس النصوص المدرسية أن صياغة الموقف من الآخرين تمت من دون تدقيق فقهي أو مراجعة للسيرة النبوية وتراث المسلمين في تعاملهم مع المخالفين، وربما تأثرت تلك الصياغة بالظروف التي كتبت فيها المصادر التي اعتمدتها لجان التأليف، فهي، ببساطة، تخالف نصوصاً شرعية ثابتة وتتعارض مع ما قرره الفقهاء في جوانب مهمة من تفاصيلها، منها على سبيل المثال العلاقة بالمسلمين أو أهل القبلة كما يقول الفقهاء، إذ نجد في أصولهم النص الصريح على عذر المخالفين ضمن دائرة أهل القبلة والرفق بهم، فيما يطالب المنهج الطالب بالهجر ويردد على سمعه مذابح أهل الأهواء كما يقول. وفي الموقف من الحضارة المعاصرة نجد تجهماً مجملاً لا يتناسب مع التفصيل الذي ورد في الشريعة بالتفريق بين ما يناقض أصول الشريعة وما كان ضمن دائرة الاختيار المشروع والاستثراء ضمن الحضارة الإنسانية التي نشاركها كثراً من المبادئ، على رأسها الأخوة الإنسانية والفطرة وآثار الرسالات وتداخل المواريث الثقافية البشرية، فضلاً عن المصالح المشتركة والعهود وغيرها من الروابط. إن المقررات الدراسية لم تتجاهل التأسيس لفقه عادل في العلاقة بالآخر لكنه جاء مشوشاً متناقضاً في جوانب مهمة منه، وكان من أسباب ذلك الاعتماد على المصادر الظرفية التي اصطبغت بروح الصراع، فعلى سبيل المثال كان سياسة التعليم تذكي في المقررات روح مواجهة المذاهب التي كانت تهدد استقرار الاجتماع السياسي الوطني في بعض الفترات، وكان ذلك جزء من آثار الحرب الباردة التي وجدت المملكة نفسها كغيرها ضمن معادلاتها المعقدة، بيد أن ظروف الماضي يجب أن تقدر بقدرها كما يقول الفقهاء لنخرج منها إلى تقرير مقتضى عدالة الكتاب والسنة، وهذا تجديد لمضمون المقررات بشروط الكتاب والسنة، إلا أن الصورة لا تبدو بهذه البساطة، فتجديد المضمون يتطلب رؤية عامة لفقه العلاقة بالآخرين، وهذه الرؤية تتطلب علاقات سوية تبدأ من أصول العلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية الوطنية، فقد بدأت مواجهات الإسلاميين مع ذوي الميول الليبرالين في أواخر الثمانينات وبدايات التسعينات على خلفية علاقات غير سوية بين التيارين، وكان ذلك جزء من طبيعة البنية المزدوجة للدولة بين الديني والتحديثي، فقد كان الليبراليون في سعي حثيث في اتجاه تحديث يتجاهل الحوار الناضج مع المؤسسة الدينية بحيث تتطور قناعات مشتركة تؤسس للتحديث على أرضية مقبولة دينياً، واستبد التيار الديني بما تحت يده من مؤسسات ليحميها من حداثة غير مفهومة الشرعية بالنسبة إليه، وخلق ذلك مناطق نفوذ متصارعة بصمت تحت هيبة السياسي وتوزيعه المنظم للأدوار، فلما بدت تداعيات علميات السلام ذات المضمون الهزيل وفقاً للتعبئة القومية والإسلامية، أخذت رؤية الإسلاميين للمقررات المدرسية طابعاً رمزياً في صميم أزمة الكرامة الإسلامية والعربية، كانت الطموحات الساذجة للقوى الصهيونية وقوداً لمعركة هوية من نوع جديد وحساس، فالمعركة لم تعد قضية سلام أو هدنة طويلة بل مشروع ترويض مذل للمسلمين للهيمنة المهينة على المقدرات العربية والإسلامية، وتصاعد آنذاك المد الجهادي في مناطق خارج أفغانستان فقدم وقوداً لرؤية ثورية تبعث الأمل بنصر في معركة الكرامة العربية والإسلامية. في هذا الوقت كانت مشاريع التنمية في أقطارنا العربية تقدم أفقاً مظلماً يثير الكآبة والقنوط، فلئن كان بناء الديار وتمكينها من ناصية النهوض مستحيلاً فآمال المشروع الجهادي الثورية تطرح خياراً أوجد حيرة بين طريقين أحدهما مسدود والآخر محفوف بالمخاطر المريعة، أدى هذا الواقع المرير إلى حالة شلل للفكر الإسلامي، فكان الموقف الصلب المستقر هو مقاومة التغيير برفض كل محاولة لإعادة هيكلة للعملية التعليمية برمتها باعتباره الخيار القائم الأكثر أماناً بين تنمية فاشلة وخطر محدق بالهوية والحقوق العليا للأمة، بيد أن الغائب عن معادلة الإسلاميين - في خطابهم المعلن وإن أسروا بخلافه - هو أن الركود هدم لأجيال الأمة القادمة. في هذا السياق العام تأتي حوارات المقررات المدرسية النشطة هذه الأيام ضمن تيارين رئيسين أحدهما المعارض للتغيير ويقف فيه كثير من الإسلاميين ويصرح معظم هؤلاء بأنهم على قناعة بحاجة المقررات إلى الإصلاح، بيد أنه يتحفظ على التوقيت محتجاً بحجج جديدة على رأسها رفض الضغوط الأميركية وتضمر هذه الحجة القلق من نفوذ ليبرالي في صياغة الرؤية الدينية في المقررات المدرسية إن بدأ في الظروف الراهنة، ويقف على يمين هذا التيار الاتجاه السلفي التقليدي ومتشددي الاتجاه الصحوي... ويضم التيار الثاني بعض الإسلاميين والاتجاهات الفرق الدينية المتضررة من الصياغة الحالية إضافة إلى الاتجاهات الفكرية الحديثة. وفي التحليل النهائي فإن الغالبية العظمى مع إصلاح للمقررات، بشرط أن يجرى بشفافية وضمانات بحماية المقررات من الخضوع لضغوط ظرفية قائمة. وقد تعاظم قلق التيار الإسلامي العام مع الحملات الصحافية التي تكاد أن تنفذ من نقد المقررات إلى تصفية حسابات قديمة مع التيار الإسلامي العام، وربما بالغ بعض الإسلاميين إلى درجة تخيل النفاذ من نقد المقررات إلى نقد الشريعة في بعض أصولها. ولا شك أن استغلال قضية المقررات الدراسية لتصفية الحسابات القديمة عمل غير مسؤول قد يعود ببالغ الضرر على مستقبل ملايين الطلاب والطالبات الذين يتوقعون من مقاعد الدرس أن تأخذ بأيديهم إلى مستقبل أكثر أمناً ورفاهية. وفي هذا المأزق المستعصي جاءت المبادرات الرسمية للشفافية والحوار لتقدم أفقاً جديداً ربما يفتح عناصر المعادلة لينقلها إلى مستوى جديد. ومن يدري فربما أدى هذا الأفق الجديد إلى إصلاح أصول العلاقة بين تيارات المجتمع لتكون المواقف مبنية على القناعة الحقيقية بدلاً من المناورات السياسية التي تحيط بالمواقف المختلفة، وفي هذا السياق نتطلع إلى دور رائد إلى لجنة إصلاح المقررات التي تعكف اليوم على دراسة التصحيح، وقد نفذت بعض مراحله بعجلة ومن غير أن تقرر رؤية عامة لما تريد اللجنة من المقررات أن تقدمه للطالب، ذلك أن سياسة الشطب والحذف لن تصلح الرؤية بقدر ما تشرذمها. وربما أدى ذلك إلى دفع التيارات الفكرية إلى تضخيم جرعات ما تم حذفه كمقاومة للتغيير، وهنا يطرح من جديد مبدأ الحوار الفكري الوطني، بحيث يكون وسيلة لتنشيط التيارات الأكثر اعتدالاً في مختلف الأطياف وتطوير رؤية إصلاحية مشتركة للمقررات تستقطب المعتدلين من مختلف المدارس. فإن تحقق ذلك فقد ننقذ من نتركهم اليوم ضحايا لرؤية غامضة قلقة وأهلية تشغيل متدهورة. * محام سعودي.