استضافت منظمة ال"يونيسكو" في باريس الأسبوع الماضي ندوة عنوانها "صدام الحضارات لن يقع" نظمها المعهد الأوروبي - المتوسطي، تحت اشراف الرئيس جاك شيراك الذي افتتحها بمداخلة متلفزة. وأكد شيراك في مستهل الندوة التي استمرت ثلاثة أيام ضرورة العمل الجماعي الملح لخفض التوترات التي تسمم الحياة الدولية وتفسح في المجال امام الخطب المؤيدة للعنف، مركّزاً بالتحديد على حل النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي وضمان الاستقرار في العراق. وأشار الى استعداد أوروبا بالتعاون مع حلفائها وشركائها للمساهمة في ذلك وحيّا حضور الوزيرين السابقين الفلسطيني ياسر عبد ربه والاسرائيلي يوسي بيلين، واضعي ميثاق جنيف، للندوة. واعتبر وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيلبان في خطاب ألقاه في الندوة ان التشنجات المرتبطة بالهوية وانبعاث الاصوليات، بات يفرض خياراً حرجاً بين الاذعان لإغراء الخوف والانغلاق على الذات، والمجازفة بإثارة الصدام المعلن بين الحضارات، او تجاهل نداءات اصحاب الهويات الجريحة، مع ما يؤدي إليه ذلك من مخاطر صحوة متفجرة، او العمل استناداً الى الاحترام والانفتاح والحوار على بناء توازن جديد، نابع من الإرادات والطاقات الجديدة. ورأى ان في إمكان الحضارات ان تكون مجالاً للصراع او التلاقي، وأنه لا بد اليوم من اختيار العالم الذي نريد، والعمل بتصميم على وضع الأسس اللازمة لذلك. واضاف ان المهم تطويق قوى الفوضى والقطيعة لبناء نظام عالمي حريص على التفاهم والعدل، وان ما يلقي على هذه المهمة طابعاً ملحاً هو التهديدات الجديدة التي تبرز من كل صوب. وأشار دو فيلبان الى ان العالم دخل منذ 11 ايلول سبتمبر عصر "الإرهاب الجماعي" الذي يضرب في كل القارات ويغذي اشكالاً قصوى من العنف، ويغذي نزعات تدميرية. وتابع ان الدول الإسلامية تدفع ثمناً باهظاً لأنصار التعصب والحقد، فمن الدار البيضاء الى بالي واسطنبول وبغداد، رعاياها هم في طليعة الضحايا، ومن الخطأ اعتبار الإرهاب الجماعي بمثابة حركة معارضة لكتلة جديدة ضد كتلة اخرى، اي الشرق ضد الغرب. وعبّر عن اعتقاده بأن ما من شيء سيكون اسوأ من السقوط في فخ مثل هذا التبسيط، لأن المستهدف اولاً هو عقلية الاحترام والتسامح والرغبة في الحوار والرغبة في الإصلاح والحداثة اينما وجدت. ووصف الشرق الأوسط بالمنطقة غير المستقرة حيث الرهانات هائلة وقابلة للاشتعال في أي لحظة، وحيث الازمات المستمرة خاضعة لاعتبارات شديدة التعقيد تهدد ببلورة شعور بالحقد. وعبر عن اعتقاده بأن هذا الشعور الذي يفتقد لمجال سياسي يعبر فيه عن نفسه، يجد في الاسلام الراديكالي مخرجاً له، وان الأخير يعمل من جانبه على تأطير الاستياء باتجاه العالم الغربي المتهم بالتنكر للهويات والإبقاء على الظلم. واعتبر ان الشرق الأوسط في حاجة الى استراتيجية شاملة تطبق تدريجاً، وان البحث عن حلول للنزاعات خصوصاً النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني شرط ضروري لتبديد الشعور بعدم الاستقرار والظلم المترابطين. وشدد على تشجيع ديناميكية تحديث دول المنطقة ودفعها في اتجاه الديموقراطية والعمل على تطورها الاقتصادي في ظل عقلية التقاسم، والتفكير في انشاء اطار اقليمي للأمن المشترك وتنظيم حوار بين الثقافات يبدد الشعور بأن الهويات موضع تجاهل. وقال ان هذه الاستراتيجية ينبغي ان تطبق جماعياً. وتوزعت اعمال الندوة حول مواضيع مختلفة منها موضوع حول الولاياتالمتحدة وما اذا كانت حليفاً أم عدواً مشتركاً. وتناول وزير الداخلية الفرنسي السابق جان بيار شوفينمان هذا الموضوع فقال ان الولاياتالمتحدة ليست عدواً مشتركاً، بما انها تواجه مشكلات تمس الجميع، ولكنها ليست أيضاً حليفاً مشتركاً، لأنها لا تسعى الى تحالفات، بل تبرز على الساحة الدولية من خلال أحاديتها. وأشار الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي بدوره الى الاحادية الاميركية، معتبراً انها بمثابة نزعة ثابتة منذ انتهاء الحرب الباردة، على رغم ان التعددية ولدت بدفع من الرئيسين الأميركيين السابقين ريتشارد ويلسون وفرانكلين روزفيلت. وحذر غالي من خطر سحق الاحادية للنهج الديموقراطي الذي واكب التعددية، ومن تهديدها للديموقراطية في دول باتت هشة من جراء العولمة. وأدلى العميل السابق لدى الاستخبارات الاميركية روبير يير والباحث الفرنسي دومينيك فولتون بمداخلتيهما حول الموضوع. وحول "الاسلام والغرب: شرخ وهمي"، شهدت الندوة جدلاً حامياً بين ناشر صحيفة "النهار" اللبنانية غسان تويني وأحد متطرفي المحافظين الأميركيين لوران موراييك. اذ رأى تويني ان الحل العادل للقضية الفلسطينية هو المفتاح لتفادي صدام الحضارات، مستذكراً في هذا الاطار انجيل القديس يوحنا الذي قال: في البداية كانت فلسطين. لكن موراييك رأى عكس ذلك بأن النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي يستخدم من قبل حكام دول الشرق الأوسط ذريعة لعدم الانتقال الى الحداثة. ورد تويني بطرح مجموعة اسئلة على موراييك منها: هل تعترف بأن الولاياتالمتحدة مولت اسامة بن لادن؟ وهل استخدمت الولاياتالمتحدة وغيرها "الاخوان المسلمين" والتيارات الاصولية لضرب التيارات القومية وفي طليعتها التيار الذي مثله الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر؟ ألم تدعم الولاياتالمتحدة في فترة الخمسينات أنظمة عسكرية متسلطة لضبط الرأي العام في العالم العربي؟ وتابع انه لا بد من نشر قيم الحرية والحفاظ عليها لأنه لا حداثة بدونها، مؤكداً ان الديموقراطية لا يمكن ان تأتي على متن آلية بل تتطلب عناية وتنمية اجتماعية واقتصادية وثقافية. اضاف انه لا يحسد الولاياتالمتحدة أبداً على المحافظين الجدد الذين يستخدمون الدين لتحديد خططهم وان المطلوب منهم التوقف عن اعطاء الدروس للآخرين. وجرى في هذا الاطار التوقف عند موضوع الحجاب في فرنسا، فقال نائب رئيس "المنظمة الدولية للأديان من اجل السلام" غالب بن شيخ ان الاشكالية التي يثيرها هذا الموضوع كان ينبغي ان تحسم مسارها السلطات الاسلامية، وانها ينبغي ألا تحجب 14 قرناً من الحضارة المشتركة. ورأى الأمين العام لمؤسسة الفكر العربي علي ماهر السيد ان الديموقراطية لا يمكن ان تفرض بالقوة وانها تفترض المساواة، في حين ان الظلم واقع يومي في فلسطين حيث ينكر على الفلسطينيين حق تقرير المصير. وقال ان هناك نقاشاً مغلوطاً مقترحاً علينا اليوم يقضي بالاختيار بين صدام حسين والرئيس جورج بوش، وان معارضة صدام حسين ليست مبرراً للقبول بالاحتلال الأميركي للعراق تحت ذرائع خاطئة. وذكّر الأمين العام لحزب التجمع المصري رفعت السعيد بأن بوش أعلن ان العالم منقسم الى معسكرين: شر وخير، وانه شخصياً ليس مع بن لادن ولا مع المعسكر الآخر. وقال ان بوش أكد ضرورة مقاومة الارهاب، وانه ضد الارهاب وقاومه لكنه أيضاً ضد الأساليب الأميركية في مقاومة الارهاب. وأضاف ان الادارة الاميركية لا تعرف معنى الاصدقاء ولا تحتاج في العالم العربي الا الى وكلاء أو أعداء. أما الأمين العام للمبادرة الفلسطينية مصطفى البرغوتي فقال ان العرب بحاجة الى الديموقراطية بغض النظر عن الولاياتالمتحدة وانها "حاجة لشعبنا وقضيتنا" وان الاتجاه اليميني المتطرف الأميركي سيؤدي الى تأخير خطير على هذا الصعيد. واختتمت الندوة بجلسة شارك فيها واضعو ميثاق جنيف عبد ربه وبيلين ووزير الدولة الفلسطيني فارس قدرة والمستشار السابق للرئيس الأميركي السابق روبير مالي ومبعوث الاتحاد الأوروبي الى الشرق الأوسط مارك أوتي والرئيس السابق للمجلس التمثيلي للمنظمات اليهودية الفرنسية تيو كلان. وألقى كلمة الختام وزير الخارجية الفرنسي السابق هوبير فيدرين، الذي قال انه على رغم الصعوبات القائمة على الأرض فإن السلام ما زال ممكناً بدليل ان ميثاق جنيف يحظى بتأييد 40 في المئة من الاسرائيليين على حد ما قالته النائبة الاسرائيلية العمالية كوليت افيغال خلال الندوة. وحيّا مستشار العاهل المغربي اندريه ازولاي الذي أيد قول الوزير السابق بأن السلام ما زال ممكناً وان جهود واضعي ميثاق جنيف تظهر ذلك.