سعت منظمة "اليونيسيف"، من خلال "المؤتمر العربي رفيع المستوى الثالث لحقوق الطفل" الذي عقد في تونس من 12 الى 14 كانون الثاني يناير الحالي، الى جعل استراتيجيات التصدي لقضايا عالقة تعنى بصحة الطفل وتعليمه وحمايته من العنف والاساءة والاستغلال، قضية اقليمية على المستوى العربي، تلاحقها جامعة الدول العربية بالتنسيق مع المنظمة الدولية، بعدما كانت هذه الاستراتيجيات مسؤولية كل دولة عربية على حدة. والمؤتمر الذي امتدت اعماله على مدى ثلاثة ايام حفل بالمتناقضات التي عكست تردداً عربياً ان لم نقل رفضاً قاطعاً لتنفيذ ما سبق ان اتفق عليه على اكثر من مستوى. فالمؤتمرون الذين كانوا على مستوى وزراء او اقل رتبة بقليل يمثلون 17 دولة من اصل 22 حرصوا بداية على رفض بنود اعتبروها تمس بالخصوصيات، واذا بهم في اليوم الثاني يتوافقون على اقرارها بل يزايدون في مناقشاتهم لتنقيحها لغوياً، لكنهم وبعد انجازهم الذي صفقوا له كثيراً، وبعثوا من حوله التحيات الى المنظمين والراعين عادوا الى رفضهم السابق بحجة الخصوصيات والحاجة الى التمويل! كان العالم العربي كما قال المدير الاقليمي لمنظمة "يونيسيف" لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا توماس ماكدرموت "اتخذ قبل 11 عاماً خطوات الى الإمام بالنيابة عن اطفاله، فعقدت الجامعة العربية مؤتمرها الاول حول الاطفال امتداداً للقمة العالمية عن الاطفال، وأعربت الدول المجتمعة عن التزامها تحقيق الاهداف لأطفالها بحلول العام 2000 وتحقق بعضها لكن بقيت اهداف عالقة". وإذ رصد ماكدرموت تقدماً خلال العقد الماضي في معدلات الالتحاق بالمدارس التي ارتفعت بشكل كبير وخفضاً في معدلات فروق الالتحاق والبقاء في المدارس بين الفتيان والفتيات في معظم الدول وخفضاً في معدلات وفيات الرضّع والأطفال بشكل ملحوظ وارتفاع نسب التحصين حتى باتت المنطقة على وشك القضاء على شلل الاطفال، الا انه سجل في المقابل ان ثمة نصف مليون طفل دون سن الخامسة ما زالوا يموتون كل عام لأسباب يمكن الوقاية منها، وهناك 11 مليون طفل خارج المدارس الابتدائية و13 مليون طفل في سوق العمل يعملون في ظروف مروّعة. وهناك ايضاً امتداداً 70 مليون شخص اميّ معظهم من الراشدين ومن الآباء والامهات، وهناك امرأة من بين اثنتين من النساء، ورجل من بين ثلاثة هم اميون في العالم العربي، والفجوة كبيرة بين الفتيان والفتيات خصوصاً في ما يتعلق بفرص انهاء برنامج مكتمل من الدراسة النوعية، وهناك ارتفاع كبير في معدلات وفيات الامهات اثناء الولادة في دول كثيرة، ويستمر اطفال كثر في العيش في ظروف النزاعات المسلحة او تحت الاحتلال، وهناك اطفال كثر في حال نزاع مع القانون ومحرومون في احيان كثيرة من حريتهم ومحبوسون مع الراشدين. كما ان هناك اطفالاً يتم التخلي عنهم او يقضون حياتهم في المؤسسات او الشوارع او يعانون من اساءة المعاملة. واذا كانت هذه التحديات تحولت الى وثيقة حملت شعار "عالم عربي جدير بالأطفال" تبنتها قمة بيروت العربية عام 2002 وتم التعهد بها في دورة الجمعية العامة الاستثنائية المعنية بالطفل التي عقدت في نيويورك من العام نفسه، فإن المؤتمر العربي الذي عقد في تونس بالتعاون ما بين الجامعة العربية ومنظمة "يونيسيف" هدف الى الزام الدول العربية برفع مستوى التزاماتها اي جعلها "اكثر وضوحاً وأكثر تخصصاً"، اي ان على دول في المنطقة كما قال ماكدرموت: "ان تصادق على الملحقين الاختياريين لمعاهدة حقوق الطفل او احدهما في ما يتعلق بانخراط الاطفال بالنزاعات المسلحة ومحاربة الاستغلال الجنسي، وعلى الدول التي لم توقع بعد ان تصادق على معاهدة القضاء على كل اشكال التمييز ضد النساء، وان تعيد الدول التي تحفظت على شروط محددة في المعاهدة تحفظ يتعلق بالشريعة الاسلامية وملحقيها الاختياريين النظر في هذا التحفظ وتقلله او تسحب بقية التحفظات". ويعتقد ماكدرموت "ان الاجندة من اجل الاطفال هي في صلب مستقبل هذه المنطقة والعالم، اذ من المتوقع ان يزداد عدد سكان العالم العربي من 285 مليوناً الى 650 مليون نسمة في العام 2050 ونصفهم من الاطفال، ولن يستطيع النمو الاقتصادي وحده ان يلبي حاجات هؤلاء السكان في حين ان الطريق الوحيد الى الأمام يتمثل في رؤية جديدة ومستوى جديد من العمل الجاد والمستدام لمصلحة الاطفال، وما تحتاجه المنطقة ان يتعلم الراشدون العرب كيف يصغون لأصوات اطفالهم ويدرسون آراءهم واشراكهم في العمل. فللأطفال، كما البشر عامة، حقوق والمسؤولية تقع على الراشدين للمساعدة في احترام هذه الحقوق لصنع غد افضل". فما الذي فعله العرب لأطفالهم خلال السنوات الماضية وما الذي يودون القيام به حتى العام 2015 بحسب خطة العمل العربية للطفولة؟ لم تأت المداخلات التي قدمها رؤساء الوفود الى المؤتمر على المسائل التي هي مثار جدل بين نظرة الدول العربية اليها وبين رؤية الاستراتيجيات المحددة دولياً لكيفية معالجتها، فبقيت الانجازات العربية المعروضة في حدود الصحة والتعليم والرعاية، وسقط كل كلام او حتى اعتراف بمشكلات اساسية، منها ما يتعلق باساءة المعاملة المنزلية والعنف المدرسي والعنف المرتكب من مطبقي القانون والممارسات التقليدية المؤذية كختان الاناث والزواج المبكر وجرائم الشرف، ولم يأت احد على ذكر الاعتداء الجنسي على الاطفال، وفي ما عدا الاسهاب في الحديث عن معاناة اطفال فلسطين والجولان من الاحتلال الاسرائىلي، فإن الاضاءة كانت نادرة على مسألة الاطفال الجنود والاطفال اللاجئين داخل مجتمعاتهم، ولم يؤت على ذكر تهريب الاطفال من جنوب آسيا، على سبيل المثال، للعمل كفرسان لسباق الهجن في بعض الدول ولا على مشكلة الاطفال غير الشرعيين اذ هناك اكثر من 18 مليون طفل في المنطقة العربية، كما تشير احصاءات "يونيسيف"، لم يسجلوا عند الولادة. وحينما حاولت وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل في سورية السيدة سهام دللو ضم العراق الى قرار يصدر عن المؤتمر يتعلق بحماية الطفل والمرأة والأسرة في فلسطين والجولان وجنوبلبنان في ظل الاحتلال قوبلت بتحفظ عراقي من رئيس الوفد المستشار في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية نوري مرزه جعفر الطيف الذي اعتبر "ان الطفل العراقي ما يزال يحتفظ بكامل شخصيته وهي ليست مسلوبة من احد". وحينما اخذت رئاسة الجلسة التي حصل فيها هذا النقاش بالتحفظ العراقي حصلت جلبة في القاعة عبرت عنها وزيرة الشؤون الاجتماعية في السلطة الفلسطينية السيدة انتصار الوزير بتثمين الموقف السوري تبعها تصفيق من المشاركين، لكن الأمر انتهى بتدخل وزير الدولة لشؤون الخارجية القطري احمد بن عبدالله آل محمود بالتمني بعدم "الدخول في المتاهات السياسية وعلينا احترام رأي العراق وهو المعترف به في الجامعة العربية". وإذا كان اقتراح ممثلة المجتمع المدني النائبة اللبنانية بهية الحريري تعيين مفوض عام لدى الجامعة العربية يعنى بالطفولة من خلال متابعة تنفيذ الاتفاقات الدولية، لقي نقاشاً محدوداً من المشاركين في المؤتمر انتهى بإقرار توصية الى الأمين العام للجامعة الدكتور عمرو موسى الذي لم يحضر الى المؤتمر باختيار "مفوض لشؤون الطفل العربي من الشخصيات العربية ذات خبرة عربية ودولية في مجال الطفولة يتابع اوضاع الأطفال في العالم العربي ويمثل الجامعة في المحافل الدولية المعنية بحقوق الطفل"، فإن الملاحظات التي ادلى بها رؤساء وفود عن ضرورة ترتيب الأولويات في الخطة العربية لم تغير شيئاً في مشروع الخطة، وأقر المؤتمر اعتمادها "كي تسترشد بها الدول الأعضاء في وضع او مراجعة خططها الوطنية". وكان من الصعب معرفة ما اذا كان هذا الإقرار يسقط مواقف كانت حاسمة من بعض الدول، بل يطرح سؤالاً عن جدوى المؤتمر اذا كانت هذه المواقف لم تؤخذ في الاعتبار او تعالج في حينه. فعلى سبيل المثال كان رئيس الوفد القطري واضحاً في إعلان ملاحظات بلاده على بنود في الخطة غير قابلة للتطبيق ومنها "الطفل المولود من اجنبي وازدواجية الجنسية وهل يتبع الأم ام الأب، والحماية من المواد المخدرة، وما يعني اخراج الأطفال في مناطق النزاعات المسلحة، هل يعني ان ننزعهم من اهاليهم؟" وكانت رئاسة الجلسة التي ابديت فيها هذه الملاحظات اعتبرت الخطة "نموذجاً نتمنى الوصول إليه ومهمتنا وضع الأمثل ولا نملك إلزام الدول العربية لكن نملك التمني بالوصول الى الأمثل". فكان ان رد رئيس الوفد الأردني امين عام وزارة التنمية الاجتماعية الدكتور حمود عليمات بالسؤال عن الغاية من عقد المؤتمر "إذا كنا لا نريد ان نبحث في الأولويات" وقوله "إننا لا نريد نموذجاً اذا كان غير قابل للتطبيق". وكان النقاش الذي دار حول الخطة والذي اوحى باحتمال اجراء تعديل عليها اثار احتجاج عضو لجنة حقوق الطفل في منظمة الأممالمتحدة الدكتور حاتم قطران وهو من الأشخاص الذين اشرفوا على تعديل الخطة وقال ل"الحياة: "ان هذه الخطة لا تعرض على الدول العربية للمرة الأولى بل وزعت سابقاً وأخذ برأي الوزارات المعنية بالطفولة فيها ونوقشت في ندوات اظهرت وجود نواقص فيها وقبلت الدول في ان تستأنس برأي خبراء في مجال حقوق الإنسان وأُعيد النظر في الخطة التي حرصنا على ان تكون ملائمة للمقتضيات الدولية، وربطنا الخطة بمفهوم الحق وأنجزناها قبل ستة اشهر ولو قرأ الجميع ما فيها لوجدوا فيها شيئاً عظيماً". وأضاف: "سمعت ملاحظة عن مسألة الأم وإعطاء الجنسية لطفلها، هذا الأمر لا علاقة له بالدين انما بالمواطنية التي لا يمكن ان تؤسس على خلفية دينية، وسمعت ملاحظة على الرعاية البديلة للطفل، علماً ان اتفاق حقوق الطفل كان على قدر كبير من المرونة عندما ذكر الشريعة الإسلامية وهذا اعتراف بمشاعر المسلمين وأخذ ملاحظات الدول العربية في الاعتبار، وسمعت ملاحظة على المادة المتعلقة بحرية الفكر والوجدان والدين وهو ما فسرته دول عربية على ان للطفل حقاً في تغيير دينه وهذا تفسير خاطئ لأن المادة تعني التزام حقوق الوالدين في ممارسة الشعائر الدينية واحترام الأقليات في ممارستها لشعائرها، وسمعت تحفظات عن مواد تتعلق بالتمييز فسرتها دول عربية انها تمس بمسألة الميراث وهي لا علاقة لها بذلك". بدت منظمة "يونيسيف" مرتاحة لما أقره المشاركون في المؤتمر، بل ان عقده هو في حد ذاته في رأي المسؤولين فيها انجاز على اعتبار انه تأجل مرتين بسبب حرب العراق، وإذا كانت المنظمة وجدت في اتخاذ قمة بيروت العربية قبل سنتين قراراً يتعلق بالأطفال خطوة لافتة في جعل الجامعة العربية تتعاطى مع شؤون الطفولة للمرة الأولى، فإن القرار بقي من دون مضمون او تنفيذ في غياب التزام عربي كامل بما اتفق عليه دولياً. ويعتقد مسؤولو المنظمة ان التحدي في ضوء مؤتمر تونس هو في جعل البرامج الوطنية للطفولة مسؤولية اقليمية على مستوى الجامعة العربية، وفي وصول وثيقة مشتركة بين الجامعة "ويونيسيف" الى القمة العربية المقبلة ذات مضمون وقابلة للتنفيذ. فهل يتحقق للمنظمة الدولية بعض ما يتمناه العرب اجمعين من جامعتهم وقممهم كل عام؟