تحت هذا العنوان الأخير انعقدت ندوة التنمية للعام الخامس والعشرين في البحرين، الأسبوع الماضي، ومنتدى التنمية هو تجمع أهلي وطوعي لبعض أبناء الخليج المهتمين بالشأن العام. بدأ عمله منذ ربع قرن، يجتمع سنوياً في أحد مدن الخليج، ويبحث في موضوع أو موضوعات لها علاقة بمسائل التنمية في هذه البلدان. مرور ربع قرن اشعر الجميع من الحرس القديم على الأقل بأنهم كبروا في السن، رغم أن متطلبهم من التنمية والتحديث في مجتمعاتهم لا تزال لم تتجاوز- في التحقيق - سنينها الأولى، وهو درس واقعي في الفرق بين عمر الشخص الفرد، وعمر الشعوب. الأوراق التي قدمت في الملتقى الأخير سياسية واقتصادية، والمناقشات معمقة وثرية، أقام عليها المئة والثلاثون من الرجال و النساء الذين حضروا الاجتماع بحثاً وتمحيصاً. وما يجد المراقب في مثل هذا الملتقى مع أبناء أو قل بعض نخبة دول الخليج العربي الست، السعودية والكويت وعمان وقطر والإمارات والبحرين، أن الواقع يختلف عن التنظير. فدول الخليج بالنسبة الى العين غير المدربة هي كمثل شجر النخيل، متشابهة، لكنها للعين المدربة كمثل شجر النخيل متشابه في الخارج ولكنه يحمل أكثر من أربعمئة نوع مختلفة من التمور! فمراحل التطور السياسي و الاقتصادي في العائلة الخليجية متفاوتة. التشابه و الاختلاف ليس مثلبة أو مغنماً، فهما محايدان. الأهم هو تحقيق المصالح العامة والمشتركة، التي تشترك دول الخليج فيها، وتتشارك أيضاً مع جيران عرب أو غير عرب في الجوار الجغرافي أو الفضاء الدولي. المئة والثلاثون شخصاً الذين اجتمعوا في المنامة، وبعضهم مسؤولون سابقون في قمة الهرم البيروقراطي أو أساتذة جامعة أو أعضاء مجالس شورى وبرلمانات، أو كتاب ورجال أعمال، حداهم قاسم مشترك تنادوا إليه واجتمعوا تحت سقفه وهو: "الإصلاح"... وهي صيحة تتنادى لها فئات وجماعات وفرق مختلفة في الخليج، أو حتى في بلاد عربية وغير عربية أخرى في زماننا الذي نعيشه. إلا أن ما يلفت النظر هو عدد من القضايا المركزية التي تناولها مجمل اجتماع اليومين في العاصمة البحرينية. القضية الأولى في المصطلح، فما هو "الإصلاح المنشود"؟ هنا تختلف الرؤية ويتحاور الجميع حول موضوع غير محدد المعالم في الجانب الإيجابي منه، أي ماهية الإصلاح وأدواته على وجه التحديد. أما في الجانب السلبي وهو الشعور بضرورة الإصلاح، فإن تنادي وتوافق الجميع أو الغالبية على "أهمية الإصلاح" في الخليج يعني للناظر بعمق أن "الوضع القائم لا يحقق طموحات معظم من حضر على الأقل"، فالحديث منصبّ على البحث عن مخرج أو مخارج لتطوير الوضع القائم. وفي ذلك إشارة تشخيصية الى أن الوضع القائم لا بد أن يُصلح، فمن يرى أن الإصلاح يبدأ بالوضع السياسي، وتفاصيله هو إقامة مؤسسات سياسية حديثة تعترف بالمواطن المتساوى مع الآخرين، وتجرى في أوقات محددة، ويتاح لهذه المؤسسات الرقابة الفعالة و التشريع. وهناك من يرى أن أولوية الإصلاح هو في النظام الاقتصادي، فمن دون وضع تنموي يحقق تنمية مستدامة، ويضمن تحقيق نظام أفضل للتوزيع بين فئات المجتمع بمرجعيات واضحة يحافظ على كرامة المواطن من العوز والفاقة والتعطل، فإن أي إصلاح آخر هو عبثي، بمعنى أنه لن يحقق نتائج ايجابية على المدى الطويل إذا افتقد الأمن الاقتصادي، وهناك من يرى أن الإصلاح الحقيقي هو في إصلاح الأنظمة التعليمية، لأن عقل الإنسان العربي في الخليج لا يزال مسرحاً يُحشى بأفكار إما تراثية بحتة أو تلقينية تفرغ عقله من الوعي بالمشكلات التي تحيط به وتنتظره على قارعة طريق التاريخ القريب، ومن دون تهيئة هذا الإنسان لمواجه تلك الصعاب المحتملة من شح في الدخل أو تراجع فيه وانتهاء عصر "دولة الرفاه" فلا أحد يستطيع التكهن بردة فعل ذلك الإنسان في المستقبل تجاه أي أزمة حقيقية تواجهه، ويرى هؤلاء أن كل ما نشاهده من خلل في الوعي والفهم المجتمعي للقضايا الكبرى التي تواجهنا هي في صلبها عدم تهيئة جيل متقارب في أفكاره ووعيه لما يتطلبه العصر، من احترام للعمل وتحبيذ المعرفة كمحرك رئيس للثروة. ثم يأتي أمر آخر في هذا السياق، حيث أن "التطور" مختلف الدرجات بين بلدان الخليج. فالأولوية في الكويت مثلاً لتفعيل الدستور المكتوب ووضع نصوصه ومقاصده موضع التنفيذ، تختلف عن بلد آخر في الخليج لا يزال يفكر في إصدار دستور مكتوب، أو أن تتقدم المرأة في بلد وتحصل على كثير من المكاسب الإنسانية، يختلف عن وضع المرأة في بلد آخر. وهنا تأتى "واقعية" تفاعل المجتمعين بأن الاجندة "الإصلاحية" ليست اجندة موحدة. نعم هي متقاربة في الأهداف وموحدة في المقاصد النهائية، ولكنها مختلفة التكتيكات مثل ما هي مختلفة في الاولويات. القضية الثانية التي جلبت الانتباه هي توصيف الدولة في الخليج، ما هي طبيعتها، تمهيداً لسبر قدرتها على التطور. وهنا يأتي التوصيف إما حاداً منقولاً من بعض الكتابات الغربية وخارجاً عن السياق، أو توصيفاً مجملاً يقفز على الواقع، وتتوالى المصطلحات فمن "دولة القبيلة الخلدونية" إلى "الدولة الريعية" لمنظري العالم الثالث، إلى "الدولة الميراثية" أو "دولة المحاصة" إلى "الدولة الطرفية" وهي نظريات قدمت لتوصيف بعض الدول والمجتمعات في فترات مختلفة من التاريخ الإنساني. إلا أن التوافق العام للمجتمعين ظل في إطار غياب التوصيف الكامل لشكل لدولة في الخليج من خلال هذه النظريات، وقد قدم أحد الحضور وجهة نظر قد تكون مقاربة للتمثل والتوصيف وهي "دولة القرابة". فالقرابة ظاهرة اجتماعية في البلاد العربية، وليست خاصة بالطبع على دول الخليج، كما أن الدراسات الميدانية في كل من لبنان ومصر حول النخبة السياسية، أكدت ظاهرة القرابة كأحد أهم المرتكزات المبنية عليها شبكة العلاقات السياسية. إلا أن "القرابة" ظاهرة أيضاًِ في مؤسسات المجتمع الذي يسمى اليوم المجتمع المدني في الفضاء العربي، فلا تقتصر على السلطة السياسية، وان كانت أكثر ظهوراً وتميزاً فيها، ولكنها بجانب ذلك تشاهد في الأحزاب و جمعيات النفع العام، وفي الجماعات والتجمعات الدينية والجماعات الضاغطة، وفي الانتخابات، بل في الجماعات فوق القطرية، وفي الشركات، وحتى في الجامعات التي تقدم "العلم"! بل هي ظاهرة واضحة في "الدولة الثورية"! العربية. إذاً فالقرابة هي ظاهرة ثقافية قديمة لدى العرب ومتجددة، إلا أن التساؤل هل "القرابة"، بهذا المعنى، تُعطل عمل الدولة الحديثة، أي تتيح خروج البعض من دائرة المسائلة وتطبيق القانون الى دائرة الأمتيازات؟ حقيقة الأمر أن التمتع بالإمتيازات الخاصة لفئة صغيرة من الناس بدأت تقل تدريجاً في بعض المجتمعات في الخليج، أما المشكلة - كما يراها البعض - هو بعض الخلط بين "السيادة" و"الإدارة" على قاعدة أن إدارة موارد المجتمع وتحديثه لا بد أن تبني على قاعدة الفصل بين "السيادة" و الإدارة! ومشاركة أهل "المعرفة" لأهل "السلطان" في إدارة المجتمع. إلا أن التساؤل الآخر يقول آخرون انه لا تستطيع أن تعمم أن من "يسود" يفتقد تلقائياً القدرة على الإدارة الحديثة، فيكمن أن يتوفر الشرطان معاً، يوافق البعض على ذلك الافتراض، ولكن جزئياً، فالاستثناء هو التوافق وتوفر القدرات و القاعدة هي تنافر مشهود بين "سيادة" أو قيادة وبين إدارة. تخرج من هذه الإشكالية قاعدة عامة هي غياب أو عدم وضوح اجندة مجتمعية لدى من يسود باتجاه نوع الإدارة أو نوع التنمية والأهداف المطلوب تحقيقها. أما القضية الثالثة التي حازت على تفكير أكثر المجتمعين فهي الإجابة على السؤال المركزي هل الإصلاح يأتي من الداخل أم من الخارج؟ وانقسمت الآراء إلى أقليتين واحدة تحدثت عن مخاطر تدخل الخارج في الداخل، والثانية عن مركزية وضرورة التدخل الخارجي، أما الغالبية فمالت إلى مزاوجة بين الاثنين، أي تفاعل الداخل بالخارج والعكس. من قال بخطورة التدخل الخارجي تحدث عن تاريخ الاستعمار وسلبياته، خصوصاً البريطاني في الخليج، وهو استعمار جمد التطور وحقق الإصلاح لصالحه، وبالتأكيد تذهب وجهة النظر تلك الى القول أن التدخل الأميركي اليوم هو ليس للإصلاح من اجل الإصلاح، إنما من اجل تحقيق اجندة مصالح ظاهرة وباطنة، ولا يفتقد هذا القول على ما يذهب إليه من رأى الحجج المقنعة، فالغرب يعرف أي جهة من الخبز هي المدهونة بالزبدة. أما القائلون بأهمية التدخل الخارجي لإحداث الإصلاح المنشود، فيسوقون حججهم من استعراض أحداث تاريخ العرب الحديث، اذ أن التدخل الثقافي والسياسي والاقتصادي كان في معظم سني القرن العشرين المعاش والمشاهد له دلائل واضحة في التغيير، ولولا تدخل الغرب الأميركي لما انسحب البريطانيون والفرنسيون والإسرائيليون من سيناء بعد 1956 ولولا تدخل الغرب السوفياتي لما تسلح كثير من العرب، وهي حجج كثيرة تستقي التاريخ الحديث والمعاصر، تنتهي بالقول انه لولا تدخل الولاياتالمتحدة في العراق أخيراً لما استطاع الشعب العراقي أن يتخلص من نظام قمعي حتى لو فني نصفه! وهي حجج تحمل بعضاً من الصدقية. إلا أن الواقعيين، وهم أكثرية، يمزجون بين الضغط الخارجي والحاضنة المحلية من اجل تحقيق الإصلاح المنشود، أما الشرط المسبق فهو التوافق المجتمعي على ضرورة الإصلاح. لأربع وعشرين ساعة كان اللقاء التاريخي للمنتدى مختلفاً بمعنى من المعاني. فالضغوط الخارجية تتسابق لتحقيق تغيير ما، كان الطموحين في السابق يحلمون بها فقط، في الوقت الذي يرجو فيه كثيرون أن تسبق خطوات الداخل لهث الخارج. إلا أن الربع قرن الماضي من عمر المنتدى قد غير أشياء كثيرة، وتكفي الإشارة الى أن الأوراق المقدمة في الندوة متاحة اليوم لكل من يريد أن يقرأ على الإنترنت في أكثر من موقع وذلك مؤشر الى أن الأدوات لم تعد محصورة بين أربعة جدران. بقيت كلمة هي تحية للقائمين على تسيير هذا المنتدى، الذي خلف حتى الآن تراثاً مكتوباً في التنمية لدول الخليج عز مثله. * كاتب كويتي.