يكشف ديمتري غوتاس استاذ الأدب العربي في جامعة "ييل" الاميركية في كتابه "الفكر اليوناني والثقافة العربية" الذي عرّبه المؤرخ نقولا زيادة وصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية والمنظمة العربية للترجمة بيروت عن السياقات التاريخية والأطر الاجتماعية والسياسية والعوامل الايديولوجية التي أدت الى نهوض حركة ترجمة لم يسبق لها مثيل من اليونانية الى العربية، في بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وهي امتدت من القرن الثاني حتى نهاية الرابع الهجري. انطلقت الدراسة من السؤال: كيف حدثت حركة الترجمة هذه، ولماذا؟ والقصد النظر في الجذور التاريخية - الاجتماعية لإحدى أهم الحركات العقلية في تاريخ البشرية. لعل حركة الترجمة التي بدأت مع تولي العباسيين السلطة، تمثل انجازاً مذهلاً، ولا يمكن تفسيرها إلا على أنها ظاهرة اجتماعية، كانت تساندها نخبة المجتمع العباسي بكامله: الخلفاء والأمراء وموظفو الدولة والزعماء العسكريون والتجار وأصحاب المصارف والعلماء. وتم دعمها بتخصيص مبالغ مالية ضخمة عامة وخاصة، وكذلك تمت متابعتها وفق منهجية بحث صارمة وضبط فيلولوجي دقيق على أساس برنامج مسنود امتد عبر أجيال، وهو يعكس، في نهاية المطاف، موقفاً اجتماعياً وكذلك جو الثقافة العامة في المجتمع العباسي المبكر، ولم يكن البرنامج نتيجة اهتمامات شخصية أو عشوائية. انطلقت حركة الترجمة واستمرت طويلاً بسبب حاجات المجتمع العباسي الحديث وما انعكس في بنيته وايديولوجيته المترتبة على ذلك. كانت حركة الترجمة اليونانية - العربية قضية عميقة الجذور وبعيدة الأثر من حيث النظرة التاريخية. وجرى عملها عبر جميع الخطوط الدينية والمذهبية والاثنية والقبلية واللغوية. وكان الرعاة عرباً وغير عرب ومسلمين وغير مسلمين، سنّة وشيعة وقواداً عسكريين ومدنيين وتجاراً وملاك أراضٍ. كانت حركة الترجمة هذه ظاهرة اجتماعية معقدة جداً. ويعود تطورها واستمرارها الى عوامل متباينة. كانت حركة الترجمة في بغداد مرتبطة الى درجة كبيرة بتأسيس بغداد وبقيام الأسرة العباسية هناك، وهي تتحكم في شؤون دولة عالمية وكانت مرتبطة أيضاً بالحاجات الخاصة للجماعة التي كانت تحت رعاية الأسرة العباسية والنخبة وعبر ترتيبها الخاص. يحدد الباحث ابتداء ثلاثة عوامل اساسية هيأت لانطلاق حركة الترجمة وهي: أولاً: ان قسماً كبيراً من الأراضي وهي مركز الخلافة العباسية كانت عرفت الهيلينية من قبل، ثانياً: ان الدولة القائمة لم تكن تُعنى بالخلافات المذهبية المسيحية التي كانت تقيد الحركة الفكرية في الامبراطورية البيزنطية، ثالثاً: ان بغداد، العاصمة الجديدة، كانت متحررة من الارتباطات العصبية والقبلية. ثم يتحدث المؤلف عن التوجهات السياسية والايديولوجية للخلفاء العباسيين وأثر ذلك في تطور حركة الترجمة والحاجة اليها. فالمنصور رأى ان دولته ورثت كل الامبراطوريات والدول التي قامت في العراق وفارس. وفي أيام المنصور فتحت الطريق لترجمة بعض أعمال ارسطو وبطليموس واقليدس وابقراط وجالينوس. وجاء المهدي مضفياً الصفة الاسلامية على الدولة التي رأى من الأولى ان ترتكز عليها ايديولوجية الدولة. واتبع اسلوب الحوار والمناقشة العقلية مع اتباع الديانات، ومثل هذا النوع من الحوار كان يقتضي معرفة الاساليب اللازمة لذلك في فن المحاججة وقواعد المناظرة. وهذا يعطي التفسير للحاجة التي دعت الى احتضان الترجمة في عهده وفرضت في النهاية ترجمة اعمال يونانية وسواها من اعمال اجنبية. ثم يصل الباحث الى استجابة المأمون إزاء مسألة الترجمة، فهو أراد ان يكون رأي الخليفة الشخصي في تفسير النصوص الدينية والمبني على العقل، هو القول الفصل. وفي هذه الأجواء كانت حركة الترجمة تقوى وتنتقل من دور الى آخر. فالأمر الذي وصلت اليه الحال الفكرية هو ان المجتمع اصبح حاجة الى البحث العلمي التطبيقي إضافة الى المعرفة النظرية. ومن هنا ينطلق غوتاس في التشديد على ان حركة الترجمة كانت مستمرة منذ ايام المنصور. وانها لم تقتصر في الرعاية والتشجيع على الخلفاء ومن يدور في فلكهم، بل كانت حركة اجتماعية فكرية علمية عامة رعاها كل من كانت له رغبة في العلم والمعرفة. ويضع المؤلف لائحة بالراعين والداعمين لحركة الترجمة كجماعات تشمل: الخلفاء العباسيين واسرهم، رجال البلاط على اختلاف درجاتهم وهوياتهم واهوائهم، رجال الدولة والحرب، والباحثين والعلماء انفسهم. كانت ثمة احوال مادية هيأت الخلفية التي ساعدت حركة الترجمة في ان تنهض وتزدهر. وهذه الأحوال المادية قامت على حادثتين تاريخيتين بالغتي الأهمية: الفتوح العربية المبكرة في الفترة الأموية، والثورة العباسية. أنهت هاتان الحادثتان والى غير رجعة الحاجز الاقتصادي والثقافي الكبير الذي يفصل العالم المتمدن لألف سنة خلت قبل ظهور الاسلام، والحد بين الشرق والغرب الذي اقامه النهران الكبيران والذي خلق قوات متنافرة في الجهتين كلتيهما. وكان لإزالة هذه الحواجز بين الشرق والغرب في أرض الرافدين بعد الفتوح العربية أثر كبير في التطور الثقافي. ثم ان نقل عاصمة الخلافة الى بغداد كانت له نتائج بعيدة المدى من جهة تأسيس خلفية ديمغرافية كانت سنداً وموصلاً لحركة الترجمة. فمع انتقال عاصمة الخلافة الى العراق تبدل وضع الدولة العربية من حيث التوجهات الثقافية. قام في بغداد مجتمع متعدد الثقافات تألف من مسيحيين ويهود ناطقين بالآرامية ومن ناطقين بالفارسية، اضافة الى عرب من سكان الحيرة على الفرات. ان القسم الأعظم من الكتب اليونانية العلمية والفلسفية نقل الى السريانية وكان ذلك بتأثير من حركة الترجمة العباسية خلال القرن الثالث الهجري. نعم أضاف المسيحيون الناطقون بالسريانية الكثير من المهارات التقنية الى حركة الترجمة. أورد الباحث تفاصيل تاريخية كثيرة عن بدايات حركة الترجمة واستمرارها، متفحصاً البواعث الامبراطورية للادارة العباسية المبكرة في دمج الثقافة السائدة للبلاد الواقعة شرق العراق وبالتالي أثرها في حركة الترجمة. وناقش في الوقت نفسه البواعث الثقافية والايديولوجية التي أدت الى تبني سياسة داعمة لحركة الترجمة. ولعل ما يبين جدة أو طرافة الباحث مناقشته لحركة الترجمة وقضية بيت الحكمة. فهو يرى ان الرواية الأدبية الثانوية تزخر بالحديث عن انشاء بيت الحكمة في البلاط العباسي مع ذكر المأمون وهارون الرشيد على أنهما الخليفتان اللذان يُعزى اليهما ذلك. ولكن في الحقيقة ليس لدينا ذكر للمصادر التي يصح الاعتماد عليها كلياً، ما يدل على مثل هذا الانشاء. انه كان مكتبه فحسب، ولم يكن له تاريخ مستقل أو مقصد خاص بالتأسيس. ويبدو من ظاهر الأمور انه لم يكن اكثر من ديوان في دور التكوين للادارة العباسية على اساس النموذج الساساني وتحت اشراف موظفين مشبعين بالثقافة الساسانية. الترجمة دوماً نشاط ثقافي ابداعي يتساوى مع وضع كتب "اصيلة"، ومن هذا المنظور نجد ان حركة الترجمة العربية كانت دلالة مميزة كما كانت ابداعاً اصيلاً، وهي اوضحت، للمرة الاولى في التاريخ، ان الفكر العلمي والفلسفي شأن عالمي، لا يرتبط بلغة او ثقافة خاصة. * باحث في جامعة لندن