جوزيه ساراماغو حاز جائزة نوبل للآداب عام 1998، ومن يقرأ روايته الجديدة "العمى" في ترجمتها الانكليزية Blin oness المدهشة يفهم لماذا. انها رواية رمزية قاسية وكئيبة جداً، تدور أحداثها حول عمى غريب أصاب رجلاً فجأة فجعله يرى كل شيء أبيض، لا أسود، كما هي حال العمى عادة. ويمتد هذا العمى الغريب الى كل من اتصل بهذا الرجل، أو كان قربه. في أول الأمر ظنت الحكومة أنها تستطيع منع انتشاره بحجز المصابين في مستشفى للمجانين قديم ومهمل. مع أن زوجة الطبيب الذي كان عاين أول المصابين لم تكن أصيبت بالعمى ادّعت انها عمياء لترافق زوجها. مُنع العميان من كل اتصال بالخارج، حتى في حال مرض أو وفاة، وقُدمت لهم ثلاث وجبات في اليوم. ازداد عدد المصابين ازدياداً مريعاً من غير أن تزداد كمية الطعام المقدّم. فيصف الكاتب مفصلاً تصرفات هؤلاء العميان: "لا يهتدون الى المرحاض، يقضون حاجتهم على الأرض، يدوس فيها أعمى آخر، لا صابون ولا ورق تواليت ينظفون به أنفسهم، تفوح منهم روائح تكاد لا تحتمل حتى باتوا يشعرون انهم أقرب الى الخنازير منهم الى البشر". 88 - 90 أو يصفهم وهم يتسابقون لأخذ حصص الطعام، لا يرونها، خائفين من تهديدات الحراس بقتلهم إن أخطأوا مكانها. 96 - 99 في هذه الحياة الرتيبة، الكئيبة، اليائسة، يستمعون بسعادة لا سعادة بعدها الى أغنية من راديو صغير أحضره أحد العميان الذين انضموا أخيراً الى الجمع. انها أوصاف تثير الشفقة على هؤلاء المسجونين الأبرياء. وحين انضم الى النزلاء في المستشفى مجرمون مسلحون استولوا على كل الطعام رافضين تسليم الآخرين ولو جزءاً من حصصهم إلا مقابل ما يملكون من أموال وحلى، ثم مقابل اغتصاب النساء، اضطرّت النساء الى الرضوخ لمطالبهم، فيصف الكاتب انهيالهم على النساء في مضاجعة متوحشة مقرفة أدت الى موت إحداهن. ويبرز فن الأديب في أنه استطاع ان يبقي القارئ مشدوداً الى القصة على رغم أن كل أحداثها تثير الاشمئزاز والنقمة على مسببي هذه الأوضاع المزرية. إلا أنه في كل مرة يضيف الى الأحداث ما يزيد القارئ احساساً بمأساة هؤلاء العميان، وبوحشية المشرفين على أوضاعهم، فتتنوع الأحداث ضمن تشابهها. كذلك يتابع القارئ هذه الأحداث المؤلمة متسائلاً كيف ومتى سيتخلص هؤلاء العميان من الجحيم الذي يعيشونه. حين اضطرّ العميان الى تسليم كل ما يملكون للعميان المجرمين المسلحين احتفظت زوجة الطبيب بمقص كان بين أغراضها. ولا يعود الكاتب يذكر هذا المقص، إلا بعد خمسين صفحة من الرواية، إذ طفح معها الكيل لأنها كانت وحدها ترى كل ما يحدث من غير أن يدري أحد بذلك، فطعنت رئيس المجرمين بالمقص الذي كانت أخفته، ثم أضرم العميان النار في غرفتهم. ما لبثت النار ان امتدت الى المستشفى بكامله، فهرع العميان الى الخارج ووجدوا ان الحراس كانوا قد اختفوا. وإذ يخال القارئ ان مأساة هؤلاء انتهت، يجد ان قدرهم التعيس يلاحقهم في الخارج أيضاً. في بحثهم عن الطعام والملابس اتضح لهم ان السكان كلهم أصبحوا عمياناً، أن لا ماء ولا كهرباء في المدينة وأن الطعام فُقد أيضاً. بفضل زوجة الطبيب استطاع من كان معها أن يحصل على بعض الطعام والملابس، أن يهتدوا الى بيتها ويقيموا فيه. وكثيراً ما أصاب هذه المرأة الشجاعة اليأس أثناء بحثها عما بقي من طعام نادر في المدينة المنكوبة. فجلست مرة على حافة الرصيف تبكي، ولم يستطع أحد أن يراها لتثير شفقته سوى كلب دنا منها، لحس دموعها وظل يتبعها حيثما ذهبت "فمن يعرف، لعله سيحتاج الى تجفيف دموع أخرى ستذرفها" 294 يقول الكاتب بحسه المرهف. وكان هؤلاء العميان ينتظرون أن تمطر السماء ليغسلوا أجسادهم وملابسهم، وحين تعثر زوجة الطبيب على زجاجة ماء نظيف كانت نسيتها، تُخرج أثمن ما لديها من كؤوس بلورية تصبّ فيها الماء العزيز الذي لم يكونوا ذاقوه منذ أن سُجنوا، فيرفعون كؤوسهم ويشربون الماء بخشوع عميق وبأيدٍ مرتجفة، فيما بكى اثنان منهم. سعادة؟ تعاسة؟ شفقة على أنفسهم؟ يترك لنا الكاتب أن نتصور السبب. فجأة يصرخ أول رجل كان أصيب بالعمى الأبيض أنه يرى، وتدريجاً استعاد الجميع بصرهم. قد يتسائل القارئ: إلامَ هدف ساراماغو بكتابة هذه الرواية الغريبة؟ من الصعب أن نبيّن كل ما فيها من رموز وقيمة. ولكن ربما نجد ما يقودنا الى فهم أحد الرموز في قول زوجة الطبيب في آخر فقرة من الرواية: "لا أظنّ اننا عمينا، أظن أننا عميان، عميان يرون، عميان بإمكانهم أن يروا ولكنهم لا يرون". ص 309. وهنا يتضح لنا لمَ ترك الكاتب زوجة الطبيب وحدها تبصر ولا تصاب بعدوى العمى الأبيض الغريب الذي أصاب كل سكان المدينة من دون استثناء. ان الكاتب يشير هنا الى عدم وعي الناس حقيقة واقعهم. ونفهم الآن لماذا كانت هذه المرأة المبصرة قالت لرفاقها العميان: "لا تستطيعون أن تعرفوا ما معنى أن يبصر الإنسان في عالم جميع أناسه عميان". ص 260، أي وحده من يعي مأساة الإنسانية وعذابه فيما الجميع حوله مستسلم، غافل. وعدم وعي الناس يظهر، مثلاً، في العنف الذي استخدمه العميان ضد بعضهم بعضاً من دون أن يدركوا أن مأساتهم واحدة وان عليهم التعاون بدلاً من الشجار والتضارب" في أن العميان المجرمين لم يدركوا أن مغالاتهم في الوحشية لا بدّ من أن تنقلب عليهم" أو أن الأموال التي هرع الناس ليسحبوها أو ينهبوها من المصارف لن تجدي حين يصابون جميعاً بالعمى ويختفي حتى الطعام" أو عدم ادراك المسؤولين في الدولة ان ادعاءاتهم لا تصدَّق حين يؤكدون للناس عبر وسائل الإعلام أنهم سيطروا على الوباء فيما يرى الناس ان عدد العميان في ازدياد مضطرد. وهنا تظهر قيمة من يعي الواقع. فزوجة الطبيب هي التي عرفت كيف تخلّص رفاقها من العميان المجرمين، هي التي ضمدت جراح من جُرح من العميان في المستشفى، وتدبّرت أمور رفاقها العميان حين خرجوا من المستشفى. حملت وحدها مسؤولية ستة أشخاص مكفوفين. حين نبهها زوجها الى انها مرهقة أجابت انها ستقوم بهذه المسؤوليات ما دام في إمكانها أن تفعل. ص 293. وفي الرواية أيضاً نقد غير مباشر لكل حكم عسكري ديكتاتوري. فالحكومة أصدرت الأوامر بعدم السماح للعميان بالحصول على طبيب أو دواء، بأن يُقدّم لهم الحد الأدنى من الطعام. وحين طالب الطبيب الأعمى بأدوية للأعمى المصاب بجرح بليغ رفض الحراس طلبه وهدّدوه بالقتل. وحين جرّ الجريح نفسه الى البوابة آملاً أن يشفقوا عليه قتلوه. بل اقترح أحد الضباط أن يقتلوا العميان جميعاً ليرتاحوا منهم ويتجنبوا نشر عدواهم. إلا أن الكاتب ينتقد أيضاً وحشية الإنسان تجاه أخيه الإنسان. فالعميان المجرمون استولوا على كل الطعام بقوة السلاح، لم يشعروا بشفقة أو بتأنيب ضمير، وحتى بعد أن قدّم لهم العميان الآخرون كل ما يملكون، ثم نساءهم أنفسهن، لم يعطوهم إلا قسماً قليلاً من حصتهم. وأكثر ما تبدو هذه الوحشية في وصف ساراماغو الحي لانهيال العميان المجرمين على النساء في مشهد اغتصاب جماعي متوحش يثير الاشمئزاز. ولكن الكاتب يخفف من وطأة هذه الأحداث ببعض الفكاهة أو السخرية، ولو مرة. فها هي مومس تخرج من غرفتها عارية وتصرخ حين تكتشف عماها فيما يهرول زبونها محاولاً الهرب وهو يزرّر بنطلونه بعجلة. وهناك شخصان في مصعد، ينقطع التيار فجأة وليس من منقذ، إذ كان العمال أصيبوا جميعاً بوباء العمى، فيقول الكاتب إنهما ماتا من دون شك ولكنهما كانا في تابوتهما الفولاذي في مأمن من الكلاب الشرسة التي كانت تأكل جثث الموتى على الطريق. ونلاحظ ان الكاتب لا يذكر أسماء الأشخاص، وانما يشير اليهم اما بمهنهم طبيب، موظفة، شرطي، مثلاً أو بمظهرهم الخارجي صاحبة النظارة السوداء، صاحب الرقعة على عينه. كما نلاحظ ان الأسئلة والأجوبة متصلة، لا تفصل بينها نقاط أو مزدوجات، فنعرف من مضمون الجملة مَنْ هو صاحب الكلام. بهذا الأسلوب الفني يمحو الكاتب الفوارق والفواصل بين الناس بما أنهم جميعاً عميان. أو يجعل أحد العميان يقول: "لا يحتاج العميان الى أسماء"؟ ص 274. ولكن الرواية تظهر أيضاً ثقة الكاتب بالناس، بإنسانيتهم، ولو أنهم غير واعين، "عميان". فالفتاة العمياء التي تسببت بجرح الأعمى الذي تحرّش بها ظلْت تؤنب نفسها، ولا سيّما بعد أن مات الرجل. وحين ماتت إحدى النساء على اثر المضاجعة الوحشية التي تعرضت لها، أبت زوجة الطبيب الا ان تغسلها قبل أن تدفنها، كما غسلت كل الأخريات لتزيل عنهن آثار الاغتصاب الوحشي الذي تعرضن له. 175 - 176. ولم يرد العميان المتجولون في المدينة أن يتركوا جثة امرأة لتنهشها الكلاب الجائعة، فبآخر ما لديهم من قوة أتوا بالفؤوس وبمجرفة، حفروا لها قبراً ودفنوها. ص 283 - 286. ولعلّ من أهم ما يبيّن ثقة الكاتب بالإنسان في هذه الرواية هو إظهاره قدرة الإنسان على مواجهة المصائب وتحملها. ففي أحلك ظروفهم الحياتية حاول العميان، بقيادة الطبيب الأعمى، أن ينظموا شؤونهم اليومية، أن يتقاسموا الطعام بعدالة، أن يحافظوا على الحد الأدنى من النظافة والترتيب في المستشفى، قبل أن يزداد عدد العميان الى درجة جعل ذلك مستحيلاً مع انقطاع الماء وفيضان المراحيض. وكاتب أعمى أبى إلا أن يتابع الكتابة، فاستخدم أقلام "بيك" تترك خطوطاً نافرة على الورق يتتبعها بيده. 276 - 277. وكأننا بالكاتب يريد من خلال ذلك أن ينوّه بأن ما يحدو الإنسان حتى في أسوأ الأوضاع هو الأمل. أصرت الفتاة العمياء على انها لن تفقد الأمل: أمل ان تجد والديها، وأمل أن تستعيد بصرها. وحين قال لها أحدهم ان لا أمل لهم في ذلك، أجابت: "لولا هذا الأمل لاستسلمت من زمان". ص 288. وتقول زوجة الطبيب: "الاعجوبة الوحيدة التي في إمكاننا تحقيقها هي أن نبقى على قيد الحياة، أن نحافظ على هشاشة الحياة من يوم الى آخر، كأن الحياة عمياء لا تعرف وجهتها. ولعلها فعلاً كذلك، لا تعرف. سلّمتنا الحياة نفسها بعد أن أعطتنا الذكاء، وهذا ما فعلنا به". ص 281، منتقدة مرة أخرى، وبطريقة غير مباشرة، عدم وعي الناس، "عماهم". وكما في كل رواية ممتازة نجد هنا أيضاً عمق تحليل لنفسيات الشخصيات في القصة كلها. مثال على ذلك نجده حين سرق الرجل سيارة الأعمى الذي ساعده على العودة الى منزله: يشعر بالخوف فيحاول أن يقنع نفسه بأنه لم يكن ينوي سرقة السيارة حين عرض على الأعمى مساعدته، ويؤنبه ضميره وهو يفكر بالرجل الأعمى الذي لن يستطيع قيادة سيارته حين يشفى من العمى، وإذ يشتدّ اضطرابه يوقف السيارة ليهدئ أعصابه، فيصاب هو أيضاً بهذا العمى الأبيض المفاجئ. مثال آخر نجده في الحوار الذي دار بين الطبيب الأعمى وزوجته المبصرة حين أرادت ان تطلع العميان في المستشفى على أنها تبصر لكي تستطيع تحقيق شيء من النظام والنظافة والترتيب والمراقبة، فحاول زوجها ان يقنعها بأن العميان سيستغلّونها، بأنها ستصبح خادمتهم، وإذا تأخرت عن تلبية مطلب من مطالبهم سيشتمونها. في النهاية أدركت انها لن تستطيع بمفردها أن تقوم بكل ما يلزم من غسيل وتحميم وتنظيف. وكأن الكاتب يقول بطريقة غير مباشرة: ماذا عساه يفعل الواعي وحده إن كان كل من حوله لا يعون؟! ولعل من أجمل الصور التي يقدمها لنا ساراماغو هو صورة المرأة في آخر الرواية وهي تبكي حين بدأ العميان يبصرون. تبكي لا لأنها ليست سعيدة من أجلهم، وانما "لأن كل مقاومتها الذهنية انهارت فجأة، وأنها كانت كوليد جديد، فكان بكاؤها هذا أول صوت يخرج منه". وحين جاء "كلب الدموع" يلحس دموعها غمرته لأن شعورها بالوحدة كان قوياً الى حد لا يطاق، وأحست ان عطش الكلب الى دموعها وحده يمكن أن يجعلها تتغلب على وحدتها. ص 306. بهذا الحس المرهف والشعور الإنساني العميق ينهي ساراماغو تحفته الروائية هذه.