للصراعات الدينية والإثنية أثر على اللبنانيين، أو بعضهم، يفوق مثيله على غيرهم ممن لم يتعرضوا لها، أو ممن تعرضوا في وقت متأخر نسبياً فلم تُتح لهم الفرصة بعد لتطوير معرفة بها تواكبها وتوازيها. هكذا يبدو كتاب "عالم على النار: كيف يولّد تصدير ديموقراطية السوق الحرة كرهاً إثنياً وعدم استقرار كونياً؟" دار هاينيمان كما لو أنه تفسير متأخر لذاك النزاع الذي انفجر في 1975، أو لواحد من أسبابه على الأقل عبّرت عنه تسميات شهيرة ك"الحرمان الشيعي" و"حزام البؤس" و"الامتيازات المارونية"، ما أوحى يومها بالتقاطع بين الطائفي والطبقي. بيد أن الكتاب هذا لصاحبته الأميركية الصينية الأصل، آمي تشوا، أستاذة القانون في جامعة يال الأميركية، يصيب أهدافاً أكثر وأبعد. فهو إنما يعالج مرحلة تالية على الحرب اللبنانية يبدو فيها كأن الحرب المذكورة، وقد كانت إرهاصاً لا يزال استثنائياً، غدت وجهة شاملة. فهو، بالمعنى هذا، يندرج في تلك الزمرة من الكتب التي تطرح تأويلاً، لا ينقصه الإحكام، لوجهة كونية عريضة. والفكرة المركزية للكتاب أن أوائل التسعينات أطلقت، بتدخل قوي من الغرب لا سيما الولاياتالمتحدة، تيارين عملا على نحو متعارض: ديموقراطية الاقتراع الشامل التي مكّنت الأكثريات المُفقَرة، والحرية الاقتصادية للعولمة النيو-ليبرالية التي عززت قدرة أقليات نازعة، لأسباب تاريخية، إلى السوق. وكان لاصطدام التيارين أن وضع العالم "على نار" التنازع الإثني المُرّ. فإذ تبدّت الديموقراطية شعبوية وثأرية تهدد الاستقرار ومقوّمات التقدم، تبدّت السوق قاطرة لسيطرة فئوية تفاقم قهر المقهورين وإفقارهم. والكاتبة لا يعوزها الرجوع إلى "سوابق" تجانست، في هذا الملمح أو ذاك، مع الظاهرة التي ترصد. فهي وإن ميّزت المحرقة اليهودية بوصفها ظاهرة أشد تعقيداً وخصوصية، يكمن أقوى مصادرها في اللاسامية الألمانية والأوروبية، رأت أن صعود النازية يخدم أطروحتها كنتاج لدمقرطة متسارعة وإصلاحات سوق حصلت إبان حقبة فايمار. ومع ان تشوا تظهر أحياناً وكأنها تمطّ أطروحتها تلك لتشمل كل ما يعرض من أوضاع وحالات، فإنها لا تسمح لإغراء التعميم باستبعاد الاستدراك. فهي لا تدّعي اقتراح نظرية تنطبق على كافة البلدان النامية، إذ هناك بالتأكيد بينها من لا يملك أقليات نازعة الى السوق، كالصين والأرجنتين. كما لا تزعم بأن الصراع الإثني مرهون حكماً بوجود أقلية نازعة إلى السوق، إذ ثمة حالات كثيرة من الكره العرقي الموجّه الى مجموعات فقيرة. فضلاً عن أنها، وهي الديموقراطية والمؤيدة للرأسمالية، لا تتهم ديموقراطية السوق الحرة بأنها من حيث المبدأ تتسبب بالصراع الاثني. لكن النقطة التي تحاول برهنتها وتشكّل، لديها، أحد دروس العولمة التي لم تُبحث كفاية في العشرين سنة الماضية، ذات مسرح عريض فعلاً. فمن بوليفيا الى اندونيسيا، لم تعمل الديموقراطية على تحويل المقترعين، بالضرورة، مواطنين متفتّحين ومتشاركين داخل جماعة وطنية. بل أدت المنافسة على الأصوات، في المقابل، الى تسهيل ظهور الديماغوجيين الذين يعاملون الأقلية الغنية والمكروهة ككبش فداء، مُطلقين حركات ناشطة ومتمحورة قومياً تطالب بأن يستردّ "المالكون الحقيقيون للأمة" ثروة البلد وهويته. وهذا ما بدا واضحاً منذ أوائل التسعينات، لم تحل إلا السذاجة دون رؤيته. ففيما كانت الولاياتالمتحدة تحتفل بانتصار الديموقراطية في برلين وجوارها الشرقي، كانت الشعارات المسموعة في العالم تقول جورجيا للجورجيين، وكينيا للكينيين، وصربيا للصرب، والسلطة للهوتو، وليرحل الأريتريون عن أثيوبيا، وليخرج اليهود من روسيا. وتموضع تشوا أطروحتها في تعارض مع فرضيات توماس فريدمان. فهي تصف صحافي "نيويورك تايمز" بأنه "المروّج اللامع" للرأي القائل إن ديموقراطية الأسواق الحرة وصفة كونية لأمراض التخلف الكثيرة. وهي، فوق هذا، ترى في اقتراحاته "نفاقاً" لأن ديموقراطية السوق الحرة التي تمجّدها أميركا ليست تلك التي "نمارسها". فالنموذج المُصدّر يفتقر الى سياسات ضريبية توزيعية وشبكات أمان اجتماعي "تُخمد الصراع بين تفاوتات ثروة السوق والسياسات الديموقراطية في الغرب الصناعي". فالرأسمالية كما استقرت عليها روسيا الجديدة، مثلاً، لازمها اعتماد نسبة واحدة وجامدة في الضريبة على الدخل هي 13 في المئة، وهو شيء غير معقول في ديموقراطية متطورة كبرى. والاجراءات التي تُعتمد اليوم خارج الغرب تشتمل الخصخصة والتخلص من دعم الدولة ورقابتها وتشجيع التجارة الحرة ومبادرات رأس المال الأجنبي، لكنها نادراً ما تطاول إجراءات رفاه أو إعادة توزيع. أبعد من هذا أنه لم يحصل في تاريخ أية أمة غربية ان تبنت ديموقراطية الاقتراع الشامل ورأسمالية دعه يمر في وقت واحد. ففي الولاياتالمتحدة نفسها، لم يُتح للفقراء الذين لا ملكية لديهم ان يقترعوا إلا بعد عقود من التصديق على الدستور. والحال أن اقتصاد دعه يمر مصحوباً بالاقتراع الشامل يؤسس موديلاً "تخلت عنه الأمم الغربية قبل قرن". فلا يجوز للغرب، بالتالي، أن يفرض على الآخرين ما تخلى هو نفسه عنه. في المقابل، فإن كتّاباً كفريد زكريا وروبرت كابلان كانوا اقترحوا إبطاء الديموقراطية الى أن تنتج الأسواق الحرة ما يكفي من تطور اقتصادي واجتماعي لجعل الديموقراطية تعمل على نحو مُستدام. فقد جادل كابلان طويلاً بأن الهاجس الغربي في تصدير الديموقراطية الى بلدان من دون مؤسسات تدعمها عمل خطير، اذ يفتح الباب للديماغوجيين وتكارُه الجماعات. وهو يرى أن صنفاً من الطغاة يمكن أن ينمّي بيئة مستقرة لازدهار الرأسمالية، موجداً مؤسسات طبقة وسطى ضرورية للديموقراطية. وبحسب كتابه "الفوضى القادمة"، فإن أبرز نماذجه سنغافورة لي كوان المزدهرة من غير أن تكون ديموقراطية. فهي، عنده، تتفوق بلا قياس على ديموقراطيات شابها، أو يشوبها، العنف في كولومبيا ورواندا وجنوب أفريقيا. وبدورها بنت تشوا على هذه المجادلة إلا أنها، على عكس كابلان، لا تظن ان أوتوقراطية مستنيرة هي الجواب عن مشاكل العالم النامي وإلا لتحولت أفريقيا، الزاخرة بالأوتوقراطيات، أغنى قارات العالم. فالمسألة، عندها، ليست في الديموقراطية نفسها بل في سرعة اعتمادها. كما أن النمو الاقتصادي لن يحوّل البلدان التي تملك أقليات سوق مسيطرة، كأندونيسيا والفيليبين، إلى بلدان كسنغافورة لا أقليات مشابهة فيها. ذاك أن الإستقرار والإزدهار لن يصلا الى هذه البلدان ما لم يجدا طريقهما إلى تضييق الهوّة بين الأكثريات الفقيرة والأقليات النازعة إلى السوق. ففي الفيليبين أقلية صينية صغيرة تشكل 1 في المئة من السكان، لكنها تسيطر على التجارة الخاصة، بما في ذلك الخطوط الجوية الأربعة في البلد وكل البنوك تقريباً ومعها الفنادق والمجمّعات التجارية والاندماجات المالية الكبرى والصناعة، ومن أوساطها خرجت الأكثرية الساحقة من بليونيرية الفيليبين. في المقابل، فإن ثلثي الثمانين مليوناً من ذوي الإثنية الفيليبينية يعيش واحدهم على أقل من دولارين يومياً، كما تبحث ملايينهم عن فرص عملها عند الصينيين. وبدورها، تتجه الأسواق المالية إلى تعزيز سيطرة الأقلية المذكورة على التجارة والصناعة، لأن المستثمرين الأجانب يتعاملون حصرياً معها. والحق أن الصينيين أقلية تتحكم بالأسواق في معظم جنوب شرق آسيا: في 1998 كان صينيو اندونيسيا، وهم 3 في المئة من السكان، يسيطرون على حوالى 70 في المئة من الاقتصاد الخاص. وفي ماينمار يسيطرون على اقتصادات ماندالاي ورانغون. يقابل هؤلاء البيضُ بوصفهم أقلية ممسكة بالسوق في جنوب أفريقيا، وبمعنى أكثر تعقيداً هناك "البيض" في البرازيل والأكوادور وغواتيمالا ومعظم أميركا اللاتينية. وفي أفريقيا الشرقية نيط هذا الدور بالهنود، وفي أفريقيا الغربية باللبنانيين، وفي نيجيريا بالإيبو، بينما احتل الكروات في يوغوسلافيا واليهود في روسيا ما بعد الشيوعية الوظيفة نفسها. وترى تشوا أن أقليات الأسواق هذه عقب أخيل ديموقراطية السوق الحرة. فعلاقة كهذه إنما تؤجج قومياتٍ كارهة ومتمركزة إثنياً، فما أن تتوافر لها القيادة الشعبوية حتى يندلع العنف. وهذا ما نراه الآن في بلد بعد آخر. لكن التناقض هذا يعمل كونياً بقدر ما يعمل وطنياً. فالأميركان، وإن لم يكونوا أقلية إثنية، إلا أن العالم ينظر اليهم كأقلية تسيطر على السوق الكونية وتحظى بقوة اقتصادية لا تتناسب إطلاقاً مع حجمها. فإذا أضفنا قدرة الولاياتالمتحدة العسكرية والسياسية والثقافية، فهمنا كيف ان الكراهية النازلة بالأميركان عالمياً من صنف تلك النازلة بالصينيين في جنوب شرق آسيا، وباليهود في روسيا، والبيض في زيمبابوي. ويحاول الكتاب الإجابة عن السؤال الشهير "لماذا يكرهوننا؟" عنوان أحد فصوله، وعن السؤال الملازم له الذي غدا من شواغل السياسة الخارجية الأميركية "ماذا ينبغي أن نصنع؟". فتجادل تشوا استطراداً بأن العداء لأميركا هو الثمرة غير الاستثنائية، والتي غدت الآن متوقعة، للقوى الثلاث الأفعل في عالمنا الراهن: الأسواق والديموقراطية والكراهية الإثنية. ولأن الأسواق تعزز الثروة والسيطرة الأميركيتين عالمياً، أو هكذا يُنظر إليها، فيما الحركات الديموقراطية والشعبوية تمكّن الجماهير المُفقرة على نطاق كوني، يمسي الأميركان هدفاً مزدوجاً للغضب، فيلوح 11 أيلول سبتمبر وثيق النسب بمذابح رواندا وبالتطهير العرقي الصربي. وما يسري عالمياً يسري إقليمياً، فيميل "عالم على النار" الى اعتبار اليهود الإسرائيليين أقلية سوق ذات سيطرة إقليمية. فإذا بدا لأهل الشرق الأوسط أن تقديراً كهذا ينطوي على إغفال لعناصر النزاع الأخرى، لا سيما التاريخي منها، بقي أن النظر من الزاوية هذه يضيء بعض جوانب المعركة التي شهدناها حول "التطبيع الاقتصادي" و"الشرق أوسطية". وفي الحالات كافة، ودائماً بالعودة الى تناقض الديموقراطية والأسواق، تجزم الكاتبة بأن "إذا ما أجريت انتخابات شعبية على مدى العالم العربي، فإن اسرائيل ستتحول موضوعاً للطعن بين كل السياسيين الساعين إلى الأصوات". بهذا ترى المؤلفة في السجال المتمادي حول العولمة تجاهلاً ملحوظاً للمسألة الأساس. فالمتحمسون للعولمة يرون ان علاج التكاره الإثني هو في مزيد من الأسواق والديموقراطية، إذ هما مجتمعين سيقودان العالم نحو الازدهار والاستقرار فيختفي التعصب. وبالفعل تُظهر دراسات للبنك الدولي ان الفقراء في البلدان النامية، مع استثناءات تشمل معظم أفريقيا، إنما يستفيدون من فتات العولمة. لكن يبقى ان ما يستفيدونه أقل كثيراً من التفاوت الذي يتعاظم ويعاظم التكارُه. فكيف وأن أقليات السوق، وبالتعاون مع المستثمرين الأجانب، يضعون يدهم على بعض أهم مصادر الثروة ورموز الهوية الوطنيتين، كالنفط في روسيا وفنزويلا والماس في جنوب أفريقيا والفضة في بوليفيا وعديد الصناعات السياحية والتراثية؟ كذلك يفوت مناهضي العولمة الغربيين البُعد الإثني لتفاوتات السوق. فهم ينبّهون الى الاختلال الضخم الذي تنتجه الأسواق الحرة مطالبين بمزيد من الديموقراطية. لكن ما دامت الدمقرطة تعني حكم الأكثرية بطريقة غير ملجومة، أضحت المطالبة هذه قصيرة النظر لا بل خطيرة، بدليل العنف والثأرية المصاحبين حكماً. فطرفا المساجلة ينحوان، إذاً، الى رؤية الفقر والغنى بمعيار اقتصادي بحت، وهذا ربما كان له معناه في المجتمعات الغربية المتقدمة فيما الوقائع الإثنية في العالم النامي مختلفة تماماً. والوقائع هذه غالباً ما تتجلى في أشكال تناحرية ثلاثة: الأول، ردة فعل على الأسواق نفسها تصحبها مصادرات للملكية. والمثال زيمبابوي، وكذلك تأميم صناعة النفط الفنزويلية أو صراع الكرملين مع الأثرياء اليهود في روسيا. فلسنوات عدة شجع روبرت موغابي الزيمبابويين على الاستيلاء بالعنف على عشرة ملايين آكر من الأراضي الزراعية المستثمرة تجارياً والتي يملكها البيض. وفيما رأت المشاعر القومية والشعبوية أن الأرض "لنا"، ذهب موغابي أبعد داعياً إلى زرع الخوف في قلب الرجل الأبيض "عدوّنا الفعلي". والمعروف ان معظم البيض هناك جيلٌ زيمبابويٌ ثالث، وأنهم لم يتعدّوا ال 1 في المئة من السكان لكنهم امتلكوا، على مدى أجيال، 70 في المئة من أفضل الأراضي ومعظمها مزارع تبغ وسكّر ضخمة المساحة ورفيعة الانتاجية. ومع تردي الاقتصاد الزيمبابوي، بسبب القضم الواسع للأرض، حثّت أميركا وبريطانيا وعشرات من مجموعات حقوق الإنسان موغابي على التنحّي مع الدعوة الى انتخابات حرة ونزيهة. لكن هذه تبقى، في واقع الحال، فكرة ساذجة. فحتى لو خسر موغابي في انتخابات كتلك، وهو ربما كان ليخسر انتخابات 2002 لولا التزوير، يجب ألا يُستهان بشعبيته. فهو، بمعنى ما، ابن الديموقراطية، وصل الى السلطة في 1980 بالانتخابات من خلال شعاره بمصادرة أراضي البيض، وذلك بعد رصيد طويل في حركة التحرر من العنصرية. وتكرار هذا الوعد بالأرض هو ما سمح له بالفوز في كل انتخابات لاحقة. لا بل كانت حملة الاستيلاء على الأرض هي نفسها من نتائج العملية الديموقراطية. فقد وقتت قبل انتخابات 2000 و2002 على أمل أن تُنجح موغابي في انتخابات كان ليخسرها بدونها. وكانت الخصخصة في روسيا قد أدت الى استياء فاقمه أن ستة من أصل أكبر سبعة أوليغارشيين يهود. صحيح ان اللاسامية الروسية قديمة، غير ان ظهور هؤلاء الأوليغارشيين إبان أزمة اقتصادية واجتماعية واسعة أعاد إلهابها وإكسابها حجماً استثنائياً. وتحت ضغط قوميين متزايدي العدد، ومتزايدي العداء للإعلام وليبراليته المستجدة، صادر بوتين محطة "إن تي في" المستقلة التي يملكها اليهودي فلاديمير غوزنسكي، ثم صادر "تي في 6" وهي ملكية يهودي آخر هو بوريس بيريجوفسكي. ولئن نظر الغرب الى المصادرة بوصفها ردة روسية أوتوقراطية ورجعية، فهمها معظم الروس استيلاء على ملكيات يهودية. ولم يتردد العضو الشيوعي في البرلمان، الجنرال ألبرت ماكاشوف، في أن يخاطب المجلس بقوله: "من نلوم؟ السلطة التنفيذية والمصارف والإعلام من ينبغي لومه. إن الربا والخداع والفساد والسرقة تنتعش في هذا البلد. لهذا فأنا أدعو الاصلاحيين باليهود". ليضيف في افتتاحية صحافية له تعريفه لليهودي ك"مصّاص دماء يتغذى على مآسي الناس الآخرين"، كما يدعو، في مهرجان خطابي، إلى قتلهم. الشكل الثاني، هجوم على الديموقراطية من قبل أقليات السوق. فالقادة المنتخبون ديموقراطياً قد يتواطأون مع أقلية ثرية لإنشاء نظام يقوم على رأسمالية المحاباة والزبونية بما يُغني الأولين ويحمي الأخيرين. فماركوس، في الفيليبين، تواطأ حتى سقوطه في 1986 مع المقاولين الصينيين مثلما فعل أراب موي، في كينيا، مع رجالات البيزنس الهنود. لكن لأن نتيجة الصراع بين أقلية السوق والأكثرية المفقرة قد لا تكون دوماً لصالح الأكثرية، تُستهدف الديموقراطية إذّاك بدل استهداف السوق. والحالات الأسوأ صيتاً للرأسماليات الفاسدة طالت كلها شراكات بين أقلية سوق وحاكم أوتوقراطي. هكذا يمكن رد الكثير من أسباب المأساة الدموية لسييراليون الى عهد الرئيس تشياكا ستيفنس الذي تحول ديكتاتوراً أوائل السبعينات وأقام تحالفاً مع خمسة تجار ماس لبنانيين. وفي سييراليون، كما في عدة بلدان، كانت استقلالات مطالع الستينات قد تسببت بإجراءات قومية ودولتية واستبدادية تناوىء السوق وأقلياته، من جرائها حُرم اللبنانيون وذوو الأصول الأوروبية والآسيوية جنسية البلد الأفريقي. بهذا مثّل نهج ستيفنس ارتداداً جسّدته خصوصاً حماية اللبنانيين ممن يسيطرون أيضاً على قطاعات اقتصادية مهمة في غامبيا. وبدورهم، وعبر شبكات البيزنس التي لديهم في أوروبا والاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدة، حقق اللبنانيون أرباحا طائلة اقتطعوا أجزاء كبرى منها لستيفنس وباقي مسؤوليه الكبار. والراهن أن هذه الصلات بالخارج وشبكاتها الملتبسة بعلاقات قرابة، وهي دائماًً مفيدة تجارياً، صارت أشد إفادة مع العولمة. فحين خلف حكام آخرون ستيفنس حافظوا على معادلة صدر تهديدها عن مواقع أخرى من خارجها، إنما من داخل الوقائع المعولمة المستجدة: ففيما كانت تتدفق على سييراليون معونات واستثمارات أجنبية خلال 1989 و1990، رعى صندوق النقد الدولي خطة إصلاح ابتدأت برفع الدعم عن الرز، وفجأة زاد سعره ثلاثة أضعاف، دافعاً الكثيرين إلى توجيه غضبهم نحو اللبنانيين. وفي الحالات كافة لم يجد القائد المتمرد فوداي سنكوح كبير عناء في تطويع مقاتليه إلى أن عمّت الفوضى التي نجم عنها 75 ألف قتيل. الثالث، العنف والمجازر ضد أقلية السوق، وهو الشكل الأشرس الذي تتوافر ثلاثة أمثلة حديثة العهد عليه: التطهير العرقي للكرواتيين من أجزاء من يوغوسلافيا السابقة، والهجمات على الأقلية الصينية في اندونيسيا، ومذبحة التوتسي في رواندا عام 1994. فبحسب تشوا ان ديكتاتور رواندا جوفينال هابياريمانا الذي حكم بين 1973 وأوائل التسعينات، ربما كان فاسداً وتوتاليتارياً، الا أنه حمى السكان التوتسي. غير أنه ما أن انفتح على الدعوات الغربية، لا سيما الفرنسية، لاعتماد ديموقراطية تعددية الأحزاب، حتى صار وزن الهوتو سلاحاً فعالاً في يد خصومه السياسيين. هكذا استند زخم المجزرة الى أساس شعبي، فيما كانت "حرية الصحافة" التي حض الغرب على اعتمادها تحول دون إغلاق وسائل الإعلام المناهضة للتوتسي بطريقة كاسرة والمحرّضة عليهم. وفي يوغوسلافيا السابقة تمتع الكروات، الى جانب السلوفينيين، ولسنوات طويلة بمستوى معيشة أعلى من الصرب وباقي المجموعات الاثنية. ثم أن كرواتيا وسلوفينيا كاثوليكيتان تشدّهما روابط وعواطف إلى اوروبا الغربية، فيما الصرب الارثوذكس يقطنون الجنوب القاحل حيث عاشوا لقرون في ظل الامبراطورية العثمانية. وفي التسعينات كان دخل الفرد في شمال يوغوسلافيا ثلاثة أضعافه في جنوبها، وجاء القدوم المفاجىء للديموقراطية الانتخابية ليسعّر العداوات القديمة. وفي صربيا، ألقى سلوبلودان ميلوشيفيتش في 1991، أي بعد أقل من عامين على توليه الرئاسة، خطاباً بالغ التعبير عن طبيعة المشكلة: "اذا كان لا بد من ان نقاتل فعندها... يا الهي... سوف نقاتل. وآمل ان لا يكونوا من الجنون بحيث يقاتلون ضدنا لأننا إن لم نكن نعرف كيف نشتغل جيداً، وكيف نعمل في البيزنس، فنحن نعرف، على الأقل، كيف نقاتل جيداً". وقد تصاحب سقوط ديكتاتورية سوهارتو الأندونيسية أواسط 1998 مع انفجار العنف المضاد للصينيين ومصالحهم. وبالفعل قُتل ألفان واغتُصبت عشرات آلاف النساء الصينيات حتى أن بعضهن لبسن حزاماً معدنياً ضد الاغتصاب تنتجه، بالطبع، المعامل التي يملكها صينيون. وقامت الحكومة المنتخبة، وعلى رأسها عبدالرحمن وحيد، بالغاء عقود التزوّد بالرزّ الموقعة مع المصالح الصينية، عاهدةً بها الى مصالح اندونيسية فكانت النتائج كارثية. فقد أدى نقص الكفاءة والفساد الى رفع الأسعار بما جوّع السكان. وفي أواخر 2000 هجرت البلاد عشرات بلايين الدولارات لبليونيرية صينيين مقربين من سوهارتو، ما ألقى بأندونيسيا في أزمة اقتصادية لم تخرج منها حتى الآن. ولئن قامت حكومة وحيد بتأميم أملاك صينية قُدّرت بحوالى 58 بليون دولار، فهذا ما وفّر "علاجاً" ثأرياً أكثر بكثير منه معالجة إقتصادية. وعلى العموم فما يعطي لقاء الأسواق بالديموقراطية طابعه الملتهب هو الإثنية. فالهوية الإثنية لا تحتويها حدود الدولة - الأمة ولا هي، بالتالي، قابلة للتعيين بدقة. ففي رواندا سيطرت، لأربعة قرون، ال14 في المئة من أقلية التوتسي، بوصفها أريستوقراطية ملاّك الماشية الممسكة بتسيير الشؤون المحلية. لكن طوال تلك الحقبة، أو طوال معظمها، ظلت الخطوط بينها وبين الأكثرية من الهوتو قابلة للامّحاء: فالمجموعتان تحدثتا اللغة نفسها، وتزاوجتا فبات في وسع الهوتو الناجحين ان "يصيروا توتسي". وهذا ما توقف بعد وصول البلجيك حاملين معهم أفكار التفوق العرقي ومُصدرين بطاقات هوية إثنية على قاعدة طول الأنف وشكل الجمجمة. ولاحقاً استُخدمت الفوارق الإثنية من قبل قادة الهوتو، لا سيما مع الضغوط الأميركية والفرنسية بهدف الدمقرطة، فانفجر الوضع برمته. وبمعنى مشابه درج تقليدياً وصف أميركا اللاتينية بالانسجام الإثني، لأن الجميع دمهم مختلط. وتدريجاً راحت تتنبّه أعداد كبرى من الفقراء البوليفيين والتشيليين والبيروفيين إلى أنهم ينتمون إلى الآيمارا والإنكا والهنود الإنديوس، تبعاً للهوية الأقدر على التعبئة. فالهوية الإثنية، وإن كانت بناءً إجتماعياً يصوغ الماضي بموجب تطلّب الحاضر، وينطوي على ما لا حصر له من تخيّل واستيهام، كافية لأن تفرض التنميط على جميع "الآخرين" وتبرر السعي إلى التخلص منهم. والقليل من العناصر الواقعية المقيمة فيها ملامح فيزيائية، فوارق لغوية... تقدم الحجج المطلوبة للتماسك، خصوصاً في حال انعدام الزيجات المختلطة، أو الاستناد الى خلفية تاريخية متضادة كحال العرب واليهود. لا تذهب الكاتبة بعيداً في تفسير نشأة الأقليات النازعة إلى السوق، أو قراءتها كظاهرة تاريخية وسوسيولوجية. فهي تكتفي بفقرة يتيمة تقترح فيها أن روح الرأسمالية وأخلاقية العمل البروتستانتي قد تلعب دوراً ما، فضلاً عن إشارات إلى دور الصلات العابرة للحدود لدى بعض الإثنيات. أما اقتراحاتها للعلاج فيحكمها ثنائي التخفيف من سيطرة الأقليات والتمهيد المتدرّج والبطيء لحياة سياسية وديموقراطية لا تدمر النسيج الوطني، ولا تودي بالرساميل والكفاءات. وهنا تبتعد عن كل مطالبة راديكالية، أكان المقصود بها أغنياء العالم مشروع مارشال ما أم فقراءه تحولات فكرية وثقافية ورقابة على الفساد والمحسوبية الخ. فهي تركّز على إجراءات ربما كان أهمها التمييز الإيجابي لصالح الفقراء مما يمكن أن تساهم به المجموعة الدولية وأقليات السوق الوطنية في الوقت نفسه. والمثلان الأبرز هنا جامعة نيروبي التي تدين بنشأتها للهنود الاغنياء في كينيا، وتوفر عائلة مَدهْفاني، وهم مالكو أكبر المجموعات الصناعية في شرق أفريقيا، التعليم والضمان الصحي والإسكان للعاملين لديهم من الأفارقة، مسهّلين وصولهم الى المراتب العليا في الإدارة، وكذلك البليونير اليهودي الروسي رومان أبراموفيتش الذي يمثل حالة غير مألوفة، حيث أدت أعماله الخيرية الى انتخابه حاكماً لمقاطعة شوكوتكا البائسة في أقصى الشرق الروسي. إلا أن الدور الأهم في التمييز الإيجابي، وهو بالطبع دور الدول الوطنية، فيُستشهد عليه بجنوب أفريقيا، ولكن خصوصاً بماليزيا وب"السياسة الاقتصادية الجديدة" التي اعتُمدت بعد الشغب العنفي الذي مارسه، في 1969، الماليزيون إثنياً ممن أغضبتهم قبضة المستثمرين الأجانب والأقلية الصينية. فقد ضخّمت الحكومة وزن المحليين وحضورهم في ملكيات الشركات والمناصب وحصص التنسيب في الجامعة، ما أسفر عن نتائج باهرة: صحيح ان النهج هذا لم يرفع أغلبية الماليزيين من الفاقة لكنه ساعد على خلق طبقة وسطى ملحوظة منهم. فبين 1970 و1992 ارتفعت نسبة الذين يشغلون منهم المناصب المهنية الأرفع عائداً من 6 الى 32 في المئة. وقد دافع رئيس الحكومة السابق مهاتير محمد عن السياسة المذكورة بهذه الكلمات: "بوجود قلة من الأغنياء الماليزيين يستطيع فقراؤهم، على الأقل، أن يقولوا إن مصائرهم لا تقتصر على خدمة الأغنياء غير الماليزيين". ولا يستحيل اصطياد الكتاب هنا أو هناك، أتعلّق الأمر بأمثلته أم، خصوصاً، باقتراحاته. إلا أن ما يرسخ، في آخر المطاف، أننا حيال وجهة نظر في ما نعيشه راهناً، وهي وجهة عريضة ومتماسكة وأقل تبسيطاً من مثيلاتها في ساحة الأفكار المتداولة. * كاتب ومعلّق لبناني.