9 وجهات و1200 منتج سياحي بانتظار الزوار في شتاء السعودية 2025    تراجع الذهب مع ارتفاع الدولار وخفض أسعار الفائدة الأمريكي    تحديث دليل الشروط الصحية والفنية والسلامة في المساكن الجماعية للأفراد    الفتح يواصل تحضيراته لمواجهة الحزم والمؤتمر الصحفي الخميس    آخر تطورات إصابة كريم بنزيما    تخصيص 120 مركزاً صحياً لتقديم لقاح الانفلونزا الموسمية بالشرقية    برق توقع 3 اتفاقيات مع شركات عالمية ومحلية لتطوير حلول المدفوعات الرقمية والتقنية    رئيس وزراء باكستان: تأثرت بالترحيب الحار من ولي العهد السعودي وأقدر دعمه الكبير لتوسيع الاستثمارات الثنائية    "الرياض تقرأ".معرض الكتاب. ينطلق 2 أكتوبر بمشاركة 2000 دار نشر محلية وعالمية من 25 دولة    ما مدى قوة الجيش السعودي بعد توقيع محمد بن سلمان اتفاق دفاع مع باكستا    رئيس وزراء جمهورية باكستان يغادر الرياض    "التجارة" تُشهِّر بمخالف نظم مسابقة تجارية دون ترخيص    جائزة فنون المدينة يستقبل زواره حتى اليوم    نجاح عملية تفتيت تصلب الشرايين    أمير منطقة المدينة المنورة يرعى حفل تكريم الفائزين بجائزة جامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز للتميز    السعودية تطالب بوضع حد للنهج الإسرائيلي الإجرامي الدموي.. الاحتلال يوسع عملياته البرية داخل غزة    في الجولة الثالثة من دوري روشن.. كلاسيكو مرتقب بين الأهلي والهلال.. وديربي يجمع النصر والرياض    في بطولة آسيا 2.. النصر يدك شباك الاستقلال الطاجيكي بخماسية    في أولى جولات دوري أبطال أوروبا.. برشلونة ضيفاً على نيوكاسل.. وعودة عاطفية لدى بروين إلى مانشستر    العيسى والصباح يزفان عبدالحميد    ضبط 83 كجم قات و61 كجم حشيش    بدد أموال والده في «لعبة».. وانتحر    فرنسا: حملة تدميرية جائرة    الأردن: جريمة إبادة جماعية    فيلم «ظبية» يكشف كنوزاً أثرية سعودية    عسير تتصدر السياحة الثقافية    في أمسية فنية وثقافية وحضور كبير.. صالون عبدالمنان يكرم الموسيقار جميل محمود    "سترونج إندبندنت وومن"    رفع الكفاءة التشغيلية بالموانئ    أمير الباحة يدشن مشاريع صناعية ولوجستية    زراعة «سن في عين» رجل تعيد له البصر    هيثم عباس يحصل على الزمالة    غابات الأمازون في البرازيل تفقد خلال 40 عامًا أكثر من 49 مليون هكتار    تدشين السوق الحرة في مطار المؤسس بمساحة 8 آلاف م2    إنزاغي: أملك الحلول    المسحل: هدفنا تنظيم بطولة آسيوية متكاملة    أمير الرياض يلتقي السفير الفيتنامي    «إثراء» يحصد جائزة التواصل الحضاري    كنوز الجوف.. حضارة آلاف السنين    "الثقافة" قطاع محفز للإبداع المحلي والنمو الاقتصادي    سارعي للمجد والعلياء    أوقاف إبراهيم بن سعيدان تنظم ورشة عمل حول التحديات التي تحدثها المصارف الذرية في الأوقاف المشتركة    وزير الشؤون الإسلامية يؤكد تطوير منظومة الطباعة بمجمع الملك فهد    المملكة تدين التوغل الإسرائيلي في غزة    الجوال أبرز مسببات الحوادث المرورية    41 مليون عملية في أبشر خلال شهر    مبادرات جمعية الصم تخدم ثلاثة آلاف مستفيد    الخدمات الصحية في وزارة الدفاع تحصد وسام التميز بجودة البيانات    الصمعاني يستعرض احتياجات محاكم الشمالية    الأميرة سما بنت فيصل تُقيم مأدبة عشاء ثقافية لضيوف تدشين مشروعات رسل السلام    نائب أمير تبوك يكرم تجمع تبوك الصحي لحصوله على جائزة أداء الصحة في نسختها السابعة    أمير جازان يرأس اجتماع اللجنة الإشرافية العليا للاحتفاء باليوم الوطني ال95 بالمنطقة    السعودية تدين بأشد العبارات لعمليات توغل قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة    خطبة الجمعة المقبلة.. وحدة الصف ونعمة الأمن والرخاء ورغد العيش    وجهة نظر في فلاتر التواصل    خطى ثابتة لمستقبل واعد    محافظ الأحساء يكرّم مواطنًا تبرع بكليته لأخيه    إطلاق مبادرة تصحيح أوضاع الصقور بالسعودية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طرقة على الحديد ... طرقتان على السندان
نشر في الحياة يوم 12 - 01 - 2004

لم يكن البحر مجرد الجار الدائم المستمر للبشر المقيمين على حدوده الفارهة، على العكس، أحياناً يخالجنا الشعور بأننا نحن الطارؤون عليه، فهو صاحب المكان وسيد الزمان.
وبفعل طبيعة الأشياء وعيتُ مبكرا على حقيقة العلاقة التكوينية بين معظم مهن أهل المحرق بالبحر، ومن النادر أن تصادف عملا يشتغل به الناس دون أن يكون صادراً عن حاجتهم اليومية، ويعتمد عليه أهل المحرق، فليس ثمة انفصال بين المهنة والحياة. ويمكنني حقا أن أعدد الكثير من المهن اتصلت بالبحر منذ الأزل، فهي إما تعتمد في موادها الخام على البحر، مثل البناء والصيد والتجارة، أو أنها تعتمد على التسهيلات التي يوفرها البحر لعملها مثل صناعة السفن والحدادة والنقل والاتصال. ولكي لا نتحدث إلا عن نموذج واحد من هذه المهن، أجد في صناعة السفن واحدة من أكثر الحرف اليدوية التقليدية التي وجدت فيها التجلي الباهر للإبداع الإنساني الذي يتصل بالبحر، بل إنني أشعر أن صناعة السفن تتميز عن الحدادة بعناصر وطبيعة جمالية تجعلني أقرب إليها بصورة غير قابلة للتفسير، إلا إذا وضعنا في الاعتبار الجماليات التي تقترحها هذه الحرفة على حياتنا اليومية والفنية.
حتى منتصف الستينات كانت المحرق تتميز بعدد من ورش صناعة السفن في أكثر من موقع على سواحل تبدأ من جنوب المحرق جنوبي السوق حتى أطراف الحالة، وتنتهي في شمالي المحرق والساحل الشمالي لمنطقتيّ الحد وقلالي. وعلى امتداد ساحل المحرق الغربي خصوصاً كانت الورش المتفاوتة الحجم والأهمية تعمل بصورة متواصلة. وعن قرب تعرفت على هذه الورش في مكانين أذكرهما جيداً، ففي الجانب الجنوبي للمسلخ خلف سوق اللحم القديم، كانت واحدة من الورش الشهيرة التي تميزت بقربها المباشر من موردين مهمين لتلك المهنة، وأعني بهما المخازن الشهيرة التي تستورد وتوفر كل ما يتصل بصناعة السفن من أنواع الأخشاب، وهي محلات بيع يطلق على الواحدة منها اسم عمارة، إضافة إلى سوق الحدادة الشهير جنوبي المحرق الذي لا تستغني عنه صناعة السفن. وكنت أكتشف تلك الورشة كلما عبرت بها قاصدا سوق الحدادة، فقد كانت علاقتي بسوق الحدادة آنذاك ليست مهنية فقط لجهة التداول اليومي بين دكانة والدي الكائنة في سوق الدلالين القديم في الشارع الموازي شرقاً لسوق القيصرية، ولكنها أيضاً علاقة عائلية أيضا لكون معظم العاملين في ورش الحدادة وقتها من الأقرباء، مثل محمد بن سلمان زوج عمتي، و ادريس ين ياقوت الحداد، أو حسن بن مرزم الحداد، وجمعة الحداد، أو مبارك الحداد، والأخير هو واحد من أشهر النهامين في فن الغناء البحري الفجري في ذلك الوقت.
وعندما عملت مع والدي في الحدادة، كانت لي عدتي ومطارقي الخاصة، وعشت في سوق الحدادين، حيث كان إيقاع المطارق يشكل جوقة متداخلة يستطيع المرء، بفعل الخبرة، أن يميز، عن بعد، حجم المطرقة ونوع الحديد المطروق، وما إذا كان محمياً أم بارداً، ومن المشوق أيضاً أن تنصتَ إلى الحداد وهو يتلاعب بالمطرقة حيث: طرقة على الحديد طرقتان على السندان. وأذكر أن أحد الحدادين كان يبالغ في تنويع إيقاعه متلاعباً بمطرقته، حيث كان يضع بجانب سندانه قطعة من الصخر الصلد، زاعماً أنها نوع من الحجارة تشحذ المطرقة، وتصقلها لتحسن تطويع الحديد الخارج من النار، وكان ذلك ضرباً من الاستمتاع وتبجيل العمل، بتحويله إلى طقس يزخرفه الإيقاع المبتكر الذي تخلقه مخيلة العامل.
وكانت ورش الحدادة آنذاك على شكل عرائش صغيرة متجاورة ظهرها للبحر وتقابل الشرق. وبسبب من طبيعة العلاقة اليومية العملية بين ورش الحدادة، وورش صناعة السفن، ويطلق عليها القلافة، كنت أنتقل بين الجانبين بشكل دائم، خصوصا أن معظم العاملين في قلافة السفن هم أيضا من أهالي حي الحدادة الذين يتصلون عائليا أو أصدقاء يوميين للعائلة، وأذكر أنني كنت أعرفهم شخصيا منذ الطفولة وأراهم كثيرا في بيتنا في مناسبات مختلفة طوال العام. وهذا ما سيجعل وجودي بينهم بين وقت وآخر مألوفا. خصوصا إذا علمنا أن المشتغلين في صناعة السفن من الصنف الذي لا يحبذ زيارة الغرباء كثيرا لأسباب لم أكن أدركها آنذاك، وإن حاول أحدهم أن يفسرها لي لاحقا على أنه نوع من خشية نقل أسرار المهنة، دون أن أصدق ذلك التفسير.
ما أريد الكلام عنه في هذا المقام ورشة القلافة الشمالية. وهي الورشة التي كانت تقع قبالة مدرسة الهداية من الجانب الغربي على ساحل البحر مباشرة، ولا أظن أن أحدا من أهالي المحرق، من طلبة مدرسة الهداية خصوصا لا يتذكر تلك الورشة التي كانت هياكل السفن قديمة أوجديدة تنتصب فيها بشموخ يوما بعد يوم طوال أشهر السنة. ولعل من أجمل الصور الحاضرة في ذاكرة ذلك الجيل، عبورنا اليومي على الورشة في ذهابنا الصباحي للمدرسة، وخروجنا بعد انتهاء الدوام ظهرا، وملاحظتنا لتلك الخطوط والأشكال الخشبية التي تبدأ غامضة من سطح الورشة، وتتكون في تناسق غاية في الغرابة والجمال، لكي تتشكل يوما بعد يوم في هيكل يتصاعد وينداح ويتلون بأنواع شتى من الأخشاب، لكي نصادف ذات صباح سفينة مكتملة يستعد العمال لدهنها بمادة الصل المستخرجة من كبد الحوت، لتغليف هيكلها الخارجي، مما يكسب الخشب متانة تحصنها ضد أنواء البحر وتفاعلات الملح.
في هذه المهنة خصوصاً سيكون التنوع الكبير في أصناف الخشب ضرباً من وضع مواهب العامل في صناعة السفن تحت اختبارات متواصلة لحواسه وقدرته على الإصغاء. فليس من غير دلالة أن يحسن الإنسان الإصغاء للخشب والتفاهم معه.
وفي اللغة: قَلّفَ السفينة: خرز ألواحها بالليف وجعل في خلالها القار، ما يسمى: القلافة.
العامل الموهوب في ورش القلاليف يمكنه تمييز وقع المطارق المختلفة الأحجام على الأنواع الكثيرة من الأخشاب، حيث كل جزء من السفينة يتطلب نوعاً خاصاً من الخشب، والمحترف يستطيع أن يدرك عن بعد، بمجرد السمع، على أي نوع من الخشب يشتغل هذا العامل، ويعرف أيضاً حجم المسامير، وما إذا كان الخشب رطباً أم يابساً، بل أن بعضهم كان يستطيع تقدير مرحلة العمل، بمجرد سماع رجع المطارق على هيكل السفينة.
أذكر أنني كنت أجلس في ركن بعيد على السفينة، في الورشة المقابلة لمدرسة المحرق القريبة من البحر، وأضع أذني على سطح الخشب لكي أصغي إلى الإيقاع الذي كانت المطارق والمثاقب اليدوية تزخرف به فضاء المكان. وكانت رائحة الخشب وإيقاع المطارق يأخذاني إلى النوم.
وأذكر أن تلك الورشة كانت مكانا أثيرا بالنسبة لعدد كبير من طلبة المدرسة أيام الامتحانات، حيث ننتشر بين هياكل السفن وأكواخ الورشة وأكداس الخشب، ناشدين نسمات باردة تنبعث عادة من أعمدة الأخشاب المصفوحة والمنقوعة في مياه البحر التي تتداخل أحياناً مع مرافق الورشة. حيث كان النجارون يعمدون إلى وضع الأخشاب بعض الوقت لكي يتم تشربها بالرطوبة اللازمة لتكون أكثر طواعية للعمل أولا، وثانياً من أجل أن تستعد، وتبدو صالحة مسبقا للبيئة المائية التي ستذهب إليها لاحقاً بعد تجهيز السفينة. فمن ذلك الخشب المنقوع في ماء البحر سوف ينبع هواء رطب يلطف حرارة الصيف أيام الامتحانات. بالنسبة لي كان الجلوس ساعات أرقب النجارين ينتخبون الأنواع المختلفة من الخشب، ويقومون بتشريحه وطيه برشاقة مذهلة حول هيكل السفينة، وتحديد مواقع الثقوب المطلوبة للمسامير ذات الأحجام الكبيرة والمصنوعة خصوصا لدى الحدادين الذين أعرفهم شخصيا. وأكثر ما كان يشدني في ذلك العمل الجميل والدقيق في نفس الوقت، تلك الأدوات البدائية التي كانوا يستخدمونها في عملهم، من أداة الثقب المكونة من الخشب والمسمار الرفيع والحبل المطوي، أو المسحاج الذي يشذب ويبري الخشب ويُنعِّم سطوحه، إلى تلك الخيوط القطنية اللانهائية الطول التي يكنزون بها شقوق الألواح المتراصة، الفتيل. وأطراف قطع الخشب المرصوص لسد المسام المتوقعة في جسم السفينة. وأذكر أن ما يشوقني في براعة الصانع تلك الدقة الهندسية الفطرية التي يعتمدها لتنفيذ تصوره على الخشب دون الاستعانة بأية أداة حديثة على الإطلاق، وكان عندما ينتخب قطعة الخشب المناسبة، ويحدد عليها بعود خشبي رفيع مبروم الطرف، يستعمله بمثابة القلم المغموس في تلك المادة الحمراء الغامضة التي يشترونها في هيئة بودرة يضيفون الماء لها، فتصبح سائلا مثل حبر أحمر كثيف يخط بها ويرسم متخيلاته على اللوح. ثم يبدأ بقطع الخشب مباشرة بالمنشار الرشيق أحيانا، أو بالقدوم الحاد الزاوية أحيانا أخرى، لكن دون أن يخطئ في قياسه على الإطلاق.
* شاعر من البحرين والنص فصل من سيرته في مدينة المحرق وستصدر في كتاب عنوانه "ورشة الأمل".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.