يعمل مسرح "الصواري" البحريني منذ تأسيسه عام 1991 مختبرياً على رفد الحركة المسرحية في البحرين والخليج بتجارب تتجرد من الأعراف المسرحية السائدة، وتدخل في نطاق التجريب والتجديد. ف"الصواريون" يسعون وفق طموحاتهم وهوسهم بالمسرح إلى دفع مسرحهم نحو اكتمال النضج المعرفي والفكري لخلق ذائقة مثقفة لدى الجمهور، عبر عروضهم المتميزة التي شاركت في مهرجانات عربية وعالمية وحظيت بالاهتمام. وحاز جائزة الإخراج المخرج عبدالله السعداوي عن مسرحية "الكمامة" في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي 1994، ضمن انشغاله بالقراءات المنتجة لرؤية خلاقة للنصوص المسرحية. ولا بد من التركيز هنا على انشغالهم بتجاوز العلبة الإيطالية كفضاء للعرض. فبين الظروف التي لم توفر لهم قاعة عرض مسرحية ينثرون عليها ثمار تمسرحهم، وبين الحاجة التقنية، يختلقون في تجاربهم فضاءات جديدة انطلاقاً من المتطلب المسرحي للعرض. فمن بين المسرحيات التي قدمت خارج العلبة مسرحية "إسكوريال" إخراج السعداوي عن نص ميشيل دي جيلدرود، وشاركت به الفرقة في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي - 1993، وقدم في بيت قديم. ومسرحية "ميلاد شمعة" تأليف وإخراج يوسف حمدان وعرضت في رواق قديم، ومسرحية "الكمامة" - السابقة الذكر - عن نص ألفونسو ساستري، وعرضت في مقر الفرقة الذي هو أقرب إلى البيت العادي، ومن ثم "القربان" عن "مأساة الحلاج" لصلاح عبدالصبور وأخرجها السعداوي، وقدمت قلعة عراد في جزيرة المحرق، وفي قصر الغوري التراثي في القاهرة. أما مسرحية "الكارثة" فعرضت في مدخل أرض المعارض كفعالية موازية لمعرض الكتاب الدولي 2002، ومسرحيتا "ابني متعصب" للقاص حنيف قريشي و"بورتريه جلاد" للقاصة غالية قباني وهما مسرحيتان سرديتان، والمسرحيات الثلاث للمخرج عبدالله السعداوي، وآخر عروض "الصواري" التي أزاحوا فيها العلبة الإيطالية كفضاء للعرض هي مسرحية "حب بطعم الشوكولا" تأليف السعداوي، وإخراج خالد الرويعي الذي شارك في التأليف، وتمثيل حسين العريبي، نجيب جلال، ولمياء الشويخ، وسينوغرافيا محمود الصفار والرويعي نفسه، وقد عرضت في مقر المسرح في بناية تتألف من ثلاث طبقات ويشغلون فيه الطابق الأخير. والعرض الآخر "طال الأمر" وهو من تأليف وليد إخلاصي وإخراج ابراهيم خلفان وتمثيل محمد الصفار ورانيا غازي قدم في كواليس مسرح مدرسة الشيخ عبدالعزيز في العدلية. إنها أقرب إلى حجرة الجلوس، ساحة لحوارات أو نقاشات "الصواريين" حول المسرح والحياة، وها هي تحال بين معاول التجربة إلى فضاء مسرحي. وعلى رغم ضيقها النسبي، يعاد صوغها لتتسع لاشتغالات الرويعي وجنوحه عن كلاسيكية العلبة الايطالية. فهو يعيد هندسة الحجرة وتفاصيلها، في عرض يبحث عن الغربة "غربة الأشياء وخصوصاً غربة الواقع المركب والمتهالك، وغربة هذا الإنسان العالق بين المعنى الكلي لمفهوم الكون ومفهوم العالم". حكاية زوجين متحابين وغربة علاقتهما، وفقدان إحساسهما بحميميتها. ينزع الرويعي في هذا العرض إلى الاتكاء على السينوغرافيا بصفتها دلالات تبث شفراته. فالسمعي البصري في بعديهما الدلالي والجمالي جنباً إلى جنب مع الحوارات المنطوقة يؤسسان لتلقيه. فالحجرة - فضاء العرض - تندغم وتفاصيلها في قتامة الأسود الذي يغطي الجدران والسقوف وحتى الأرض، والظلام الدامس، وكنا كمتلقين نتلمس طريقنا الى كراسي المتفرجين الثلاثين المصفوفة عبر كشاف صغير جداً لا يوضح المعالم، إمعاناً في غربة المكان، وبرودة العلاقات الإنسانية لشخوص العرض. يبدأ العرض بالراوي الذي أزاح فيه الرويعي الجسد البشري واستبدله بجهاز الكومبيوتر، إذ نقرأ الحدث عبر شاشته السوداء المكبرة ولا نسمعه على لسان ممثل. انها إزاحة لنمطية الراوي على المسرح، والذي أصبح شخصية مكرورة وإن كانت الحاجة تستدعيها، إضافة إلى ربط الأحداث والمشاهد عبر كلام النادل عن الدودة والسمكة، للكاتب الإيطالي ستيفانو بيني، الذي يبدو للوهلة الأولى غير متوافق مع مجريات الحدث المسرحي ومنفصلاً عنه، إلا أن علاقة الدودة بالسمكة هي ذاتها علاقة الزوجين المتغيرة، وحواره تأطير لهذه العلاقة. ولعلّ استخدام الرويعي لمفردات بصرية وسمعية كالفيديو لعرض بعض المشاهد بغية ملء ثغرات الحوار، كمشهد الزواج، والصور المتحركة للممثلين الرئيسيين في أوضاع مختلفة، ولعبة الإضاءة المكملة لجمالية العرض، وسمعية من خلال موسيقى نادر أمير الدين وأدائه وأداء نور الزياني الغنائي، أعطى العرض والمكان المعاد صوغه بعده الجمالي، ومفردات حفزت حاسة التلقي واختصرتها في هذه المساحة بكل تفاصيلها، وبزوايا الرؤية التي اتسعت وضاقت في آن واحد، وتركت في الذاكرة أسئلة تلتقي مع مقولة العرض: "هل العالم فعلاً أصبح قرية صغيرة أم نحن الذين تضخمنا بما يكفي لأن نرى العالم كله صغيراً لا يسعنا؟". "طال الأمر"، عرض آخر لفرقة "الصواري"، يروي ويلات الحروب وما تفرزه من انتكاسات نفسية للبشر، الى حد فقدان الرغبة في الحياة، من خلال زوجين عجوزين يسكنان في الطابق السادس في إحدى البنايات التي تطل على ساحة تمتلئ بالجثث جراء الحرب. حكاية مجردة من الزمان والمكان، فهي حكاية الإنسان تحت طائلة الحرب، أي حرب. إعلان العرض يشي بأن "الصواريين" يعودون إلى اشتغالات العلبة الإيطالية مسرح مدرسة الشيخ عبدالعزيز، لكن حال الدخول إلى الصالة لا يلحظ المشاهد سوى سقالات وأغطية زرقاء كبيرة، ولا كراسي للمتفرجين، وقبل بداية العرض بدقائق يرشدنا مخرجه إلى باب يفضي إلى كواليس المسرح التي أحالها خلفان إلى فضاء مسرحي قالباً معادلة التلقي المألوفة، حيث يدخل فضاء المسرح إلى عمق الخشبة ولكن من الخلف، وتتحول الكواليس إلى مساحة تتوزع فيها كراسي المتفرجين التي لا تتجاوز الثلاثين، والفضاء المغلق الغامض غموض الآتي، المصوغ من أخشاب قديمة يبدو عليها الاهتراء، دلالة اهتراء الروح الإنسانية تحت وطأة الظروف. أغراض تجمعها الفوضى، دلالة فوضى الحرب، إضاءة لشموع تتوزع في زوايا المكان. وعبر الشفرات البصرية والسمعية - عزف كونترباص حزين - التي يرسلها العرض، وعبر أداء الممثلين الذي يتباين بين التماعات أداء محمد الصفار ونمطية رانيا غازي، على رغم قدراتها المسرحية المعروفة، يدخل المتلقي في سيرورة الحدث متعاطفاً مع هاتين الروحين الممزقتين. وعلى رغم تجاوز المألوف في فضاء العرض، إلا أن الديكور الأقرب إلى شكل كوخ، وإن كان متسقاً مع مقولة العرض جاء متكلفاً في صيغته النهائية. ويحسب لخلفان الذي رشح لجائزة الإخراج في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي - 2003 عن عرضه "يوم نموذجي"، اختباره لفضاء العرض، متجاوزاً ظرف الفرقة في عدم توافر خشبة عرض مناسبة، وظرف الجمهور الذي يبحث عن السائد في المسرح. عرضان ينمان عن وعي متقد لشباب مسرح "الصواري" الحديث التأسس، يركزون اشتغالهم وتجاربهم المسرحية على مبدأ التجريب والتجديد، انطلاقاً من هوسهم بالمسرح والفكر الذي يدعم توجههم، واختبارهم للفضاء، والنصوص وأداء الممثل... كل هذا يعطي بصيص أمل في مسرح طليعي وسط فوضى الحياة.