لا يصف إبراهيم داود في ديوان "انفجارات إضافية"، الصادر حديثاً في القاهرة عن دار ميريت للنشر، تجربة تامة، بقدر ما يصور سلسلة من الأفكار المحيطة بمشاعر مبهمة، مستعيناً بطرق غير مباشرة، في الملاحظة والتأمل، تظهر عبر مجال مزدحم بمخلوقات تمثيلية، فنجد، على سبيل المثال، في قصيدة "الواقعيون": القطط، العمارات الصاعدة بين المقابر، الموظفين الضيوف على مقارّ أعمالهم، القطارات، الحبر، المقهى، الحانة، القانون الآلة أو التشريع، وأخيراً الجمهور والعرض. ليست هناك صعوبة في معرفة ما تدور حوله القصائد، ولا في فهمه، يقوض الوضوح دعامة المعنى التي تعزز إعادة الصوغ، لو خطرت الفكرة للقارئ، لكن تضاؤل الغموض في الديوان قرين الإحساس بوفرة نوع من الانعكاس المتقطع، لانشغالات تتردد بين الشخصي والشخصي العام. ويبرز في الديوان إحساس بغياب الجديد والمفاجئ، فقد ظلت "المداخل" ورحل كثيرون، لتبقى الذات وحدها تكرر نشاطاتها ومواقفها النفسية تجاهها. "صديقك الحزين/ الذي لن يتعلم ابداً من الماضي/ ويتعثر كعادته/ في درجات السلَّم نفسه/ وفي نوع محدد من النساء/ ويذهب إلى العمل كل يوم"... "أدخل السينما مرتين في الأسبوع/ وأكره ما زلت فيلم الحرام"... "يشعر العاشق/ في أيلول سبتمبر من كل عام/ بوتر رقيق حول رقبته"... "أملك أصابع عالية/ وأعزف كل ليلة". النشاطات التكرارية من بيروقراطية الوظيفة إلى تقليدية السلوك قد تبدو غبية بالنسبة الى كثيرين، لكنها ليست معدومة الجدوى، ويمكن الجدل في خصوص ذلك، مثلما تجادل قصائد إبراهيم داود في مشادة هادئة، لتقنعنا بأن هذه النشاطات غطاء لانقسامات ضمير الذات إلى ضمائر مجردة أحياناً ومتعينة في أحيان أخرى. بهذا التعارض بين ما توحي به النشاطات الظاهرة من ركود وتكرار للأخطاء نفسها وما تخفيه وراءها من حركة الروح بين أبنية الأحلام وفراغاتها، نستطيع - بهذا التعارض - أن نمسك بخيوط القصائد كلها، وتدريجاً تصبح الصور أقل اعتباطية، وتتكشف النداءات الشعرية التي لا توجه الى الفكر بقدر ما توجه الى الإحساس العميق بما تثيره الكلمات خارج حدود الصفحة والشكل. كل كتابة تنطوي على نداء ما، لكن الشعر يذهب بالمراوغة الجمالية أبعد بكثير، وكذلك هذا الديوان، حيث الأفكار المحمولة على علاقات لغوية تلقائية ومفتوحة، في مدى انشغال واسع، مأهول بالفهم المتورط عاطفياً، وبالعاطفة المتوترة، والمهدهدة بالإرجاء دائماً. يمكن انتخاب قصيدة تنوب عن الديوان في كشف مراحل النداء الخاص، وقصيدة "زي بسيط لأعوام قادمة" التي أخذ الديوان عنوانه من أحد أبياتها، تبدو مثالية في هذا الاتجاه، وفيها يتعاقب النداء بحسب الترتيب الآتي: استهلال يناشد القارئ لقيادة إحساسه - خلاصة الحالة - تأثيرها - شواهد مساندة - سوابق - اعتراض متوقع - انسحاب لطيف. "لم يكن هناك"، هكذا تبدأ القصيدة بنفي حضور مَن يسهل استنتاج أنه المتكلم نفسه، لكن الكلام على الحاضر بصفته غائباً يراهن على الأثر النفسي الناتج من نبل الدفاع عن الغائبين. سنقدر سريعاً معنى هذه المراهنة، عندما تضع خلاصة الحالة الغائبَ في موضع اتهام. "لم يكن هناك/ عندما وقعت انفجارات عدة.../ في السنوات/ التي حافظ فيها على حنجرته/ ليصرخ عندما يخلو إلى نفسه". ويتأكد الاتهام عندما نلحظ تأثيرات الحالة أو الانفجارات، فقد "جعلته ينظر إلى قدميه/ وهو يركض/ ليتفادى أورام ظله" و... "أغنته عن ارتداء زي رسمي/ يجعله مميزاً بين جيرانه/ جيرانه الطيبين/ الذين لم يشعروا بالدوي مرة واحدة/ على رغم إصابتهم جميعاً/ بأمراض الكلى". سنفهم العلاقة بين عدم سماع الدوي وأمراض الكلى في قصيدة "الشهداء مساكين في سبتمبر". فهناك يشعر العاشق/ العازف/ الممثل/ الشهيد - في سبتمبر من كل عام - بأن "كليتيه غير قادرتين/ على المشي به/ وأن البكاء لا يليق/ بين الكومبارس". والكومبارس هو الجمهور الذي يوقع كالممثلين في دفتر الحضور وأطرافه في الشارع، ويبحث خارج النص عن. جملة في الحوار/ تؤكد أنهم يعيشون في منازلهم/ وأنهم بعيدون عن المتاريس"، ثم يصفق في النهاية. تقترح هذه العلاقة موقعاً نفسياً للانفجارات، ولوماً شديداً للآخرين في مشادة تستهدف صرف الانتباه عن شخصانية هذه الانفجارات وعدم تغييرها لأي شيء، في ظل اتخاذ الذات موقفاً ثابتاً من النهايات.. "نحن في كتب الجبر/ ضد النتائج/ والعالم الواقعي مزدحم بالتفاصيل". إدامة النظر في التفاصيل المتفرقة تعطل استخلاص نتائج، والذات هنا شغوفة بمطاردة التفاصيل، لا تشجع التراكم، أدخلت الماضي حظائرها، وتتحدث باسم البدايات. البدايات المتكررة ترجئ النهايات، وما يرافق كل بداية - من شعور بالانهزام أمام المدينة - ليس إلا الألم الشره، الذي يسبق الغناء في احتفال خارق للأفق تخطط له الذات. يقتضي الاحتفال حضور المحتفل والمشاركين، لذلك يثير الغياب في قصيدة "زي بسيط لأعوام قادمة" سؤالاً عن مبرره: "لم يكن هناك/ لأنه أخلص في ادخار طفولته/.../ في انتظار أعوام أخرى/ يخلو فيها الشارع/ ليعوض ما فاته في التسعينات/ ويلبس زياً بسيطاً/ يجعله شخصاً عادياً/ بين جيرانه الطيبين". محاولة تعويض ما فات أثناء التخطيط - تشي بأن استجابة الذات للحوادث تتأخر بنمط تكراري، لتكون بداية تعاملها معها نهاية بالنسبة إلى الآخرين، وهو ما يفسر تكرار البدايات ومعارضة النتائج، من جانب، ومن جانب آخر يجعل الرغبة الملحة في السمت العادي/الطبيعي/الواقعي، مفهومة، وإن كان فهمها يعيد الانتباه إلى حيلة الذات في لوم الآخرين على تجاهل تميزها، بل والانتقام منهم بهذه الرغبة في التخلص من عبء التميز، والتماهي مع العاديين الواقعيين. تدعم العلاقات اللغوية التلقائية والمفتوحة آلية الانسحاب اللطيف، التي تواجه بها الذات اعتراضات متوقعة، مثال ذلك تكرار الوصل بالواو والذي والذين، والاستدراك بلكن مع استخدام الواو معها، بمصادرة على استدراكات القارئ من جانب، وبوصل تعسفي بين الفكرة والاستدراك عليها، من جانب آخر، وفي ظل إطار كهذا تصبح الجملة بداية مستمرة بلا انتهاء. العلاقات اللغوية المستمرة والوصف المفتوح يناسبان فكرة الزيادة عن الحد العادي، المطروحة بقوة في الديوان، حتى ليبدو من خلال استخدام تعبير "رئة إضافية" أن هناك امتلاء ما يفوق مستوى الاكتفاء، وأن الذات تتخلص من هذا الامتلاء في عزلتها: "الرئة تبحث عن الحرية/ في الحبر والصراخ"، وفي حين أن "الجسارة تحتاج الى رئة إضافية/ لتستوعب المفاجآت". تتخلص الذات هنا من الإضافي، لتستوعب الاعتياد، أي النقص بمفهومها، غير أن الاستيعاب لا يعني الوصول إلى نتائج، ما دامت البدايات تتقافز باستمرار. الموضوع في الديوان، هو الذات، على رغم الحضور المتنوع للآخر، وهذه من حيل النداء الخاص. فجميع المخلوقات المقدمة تمثيلات للحالة الأساس، ومجملها مواجهة تميز الذات والرغبة في العودة إلى العادي والواقعي، للتخلص من معاناة الإحساس بالإضافي الزائد. تأمل شكل ظهور العاشق/ العازف/الممثل/ المقامر/ العاشق/ البحار... الكل لديه فائض ما: مشاعر، موهبة، مال، جرأة، مع اتفاق الجميع في الاستياء من الجمهور، والتضرر من تجاهل الآخرين لوجودهم على رغم تميزهم. أصدر إبراهيم داود من قبل "انفجارات إضافية" خمسة داووين، عدا ديوان مختارات في سنة 1999 عنوانه "يبدو أنني جئت متأخراً"، ومبكراً في سنة 1988 كشف الديوان الأول "تفاصيل" عن خصوصية الصوت الشعري، ليظل تطوير الأداء هاجساً مرافقاً لكل إصدار إضافي، وليضع أي إصدار إبراهيم داود في صدارة المنافسة، على رغم قول الشاعر نفسه: "شيء ما/ يؤكد له أنه خارج المنافسة".