أكد محللون في البنك الدولي أن الدول العربية حققت نتائج باهرة في توفير الخدمات الأساسية لمواطنيها في العقد ونصف العقد الماضيين لكنها فشلت في تمكين اقتصاداتها من استغلال كامل طاقاتها للنمو، ورأوا أن السبب الرئيسي في ذلك يعود الى سوء نظام الادارة العامة أي "كيفية تفاعل الحكومات مع مواطنيها ومنظمات المجتمع المدني من أجل تعزيز الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية في مجتمعاتها". وخلصت دراسة تحليلية هي الأولى من نوعها أصدرها البنك الدولي أمس الى ان فشل دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تطبيق نظام ادارة عامة يراعي مبدأي "المشاركة" و"المساءلة" ويوفر مناخاً موائما لنمو القطاع الخاص وحفز الاستثمار أضعف نمو اقتصاداتها وعرقل جهود التنمية البشرية في مجتمعاتها، ما أدى في المحصلة الى خسارة فرصة كان من شأن استغلالها دفع متوسط الدخل في المنطقة الى ضعف ما هو عليه في الوقت الراهن. ولا ينحصر الأمر في خسارة فرصة ثمينة لتسريع النمو اذ لاحظ المحللون الدوليون أن الاقتصادات العربية تمر الآن في فترة تتسم بتصاعد مستمر في مستوى توقعات المواطنين من الرجال والنساء من جهة وتعاظم التحديات الاقتصادية من جهة أخرى، وحذروا بشدة من ان هذه الفجوة المشكلة بين الانجازات المحققة فعلياً وتطلعات الناس باتت خطراً يهدد مسار التنمية في المنطقة التي تضم في أدبيات البنك الدولي الدول العربية وايران. قال نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كريستيان بورتمان ان شأن التنمية لا ينحصر في مسألتي الدخل والثروة بل يتعداهما الى نوعية العيش بمعناها الأوسع مثل أن تتوافر للمواطنين حرية المشاركة في عملية الادارة العامة ومستوى جيد من التعليم وخدمات الرعاية الصحية والمياه النظيفة والمساواة في المعاملة سواء في صياغة السياسات أو تطبيقها في الدوائر الحكومية والمجتمع بشكل عام. وشدد على أهمية نظام الادارة الجيد الذي يضمن للحكومة ممارسة السلطة بطريقة تكفل لكل مواطن سلامته وحقوقه واحتياجاته. ولفت المحللون الى أن حكومات المنطقة عملت على توفير الخدمات الأساسية للمواطنين وحققت نتائج باهرة في هذا المجال في الاعوام الأخيرة، مشيرين على سبيل المثال الى أن لبنان رفع معدل تطعيم الأطفال من صفر تقريباً الى 90 في المئة في غضون عقد واحد وأن عدد خطوط الهاتف في تونس ارتفع بمقدار عشرين ضعفاً في فترة مقاربة، وأن المنطقة وعلى رغم ما تعانيه في قلة مصادر المياه تعتبر الأفضل بين مناطق العالم في توفير المياه للمواطنين. لكن كبير الاقتصاديين المعنيين بشؤون الشرق الوسط في البنك الدولي مصطفى نابلي حذر من أن ضعف المشاركة، الشق الأول في معادلة الادارة الجيدة، يهدد المكاسب المحققة في مجال الخدمات العامة وقال "ان الضغوط الناجمة عن تزايد عدد السكان والتوسع الحضري وازدياد تعقيد الخدمات العامة استنفدت الطاقات المتاحة لتوفير هذه الخدمات ما أدى الى ظهور عدم مساواة بين الجنسين وتشكل فجوات بين المناطق الريفية والحضرية في مجال التعليم وغيره من المؤشرات الاجتماعية". واستنتج المحللون في دراستهم كذلك أن المشاركة ليست الأمر الوحيد الذي يعاني من ضعف التطبيق بل ان الشرط الثاني الذي لا بد من توافره لضمان جودة الادارة العامة وهو "مساءلة الشخصيات العامة من جانب أبناء دوائرهم الانتخابية" يعاني بشكل أكبر على رغم أن كلاً من هذين الشرطين تقره وتكفله الغالبية العظمى من دول المنطقة في نظمها التشريعية دساتيرها التي تؤكد أن الشعب هو صاحب السيادة. وذكرت الدراسة بأن المساءلة وآلياتها لا سيما الشفافية التي تتطلب المعرفة وتوافر المعلومات عما تفعله الحكومة بشكل فوري وكذلك التنافس النزيه على المناصب الحكومية وتوافر أخلاقيات العمل من أجل المصلحة العامة، تشجع المسؤولين والشخصيات العامة على العمل لخدمة مصالح المواطنين لكنها تعرضهم لخسارة مناصبهم عندما يكون أداؤهم ضعيفاً. ونوه المحللون بأن دولا عربية وايران خطت خطوات كبيرة باتجاه تعميق الشفافية مبرزين عدداً من الأمثلة من ضمنها أن ايران تنشر موازنتها المالية كاملة وتعرض مناقشات برلمانييها في بث حي على شاشات التلفزيون، وهو ما تفعله دول أخرى في المنطقة، وأن وسائل الإعلام في دول مثل ايران والجزائر تساهم في نقاش عام حول مساءلة الحكومة، وأن هذا النوع من النقاش يتسم بالقوة في لبنان، وأن الفضائيات تكتسب أهمية متزايدة في نقل المعلومات عبر حدود كان يتعذر اختراقها في الماضي. لكنهم شددوا على أن الشفافية لا تزال محدودة ومترددة بشكل عام وأن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تأتي في المرتبة الأخيرة بين مناطق العالم من حيث توافر المعلومات عن مسائل تتعلق بنظام الادارة العامة وضمان حق المواطنين في الحصول على المعلومات عن النشاط الحكومي، علاوة على أن معظم بلدان هذه المنطقة تخضع وسائل الاعلام للرقابة والسيطرة مساهمة بذلك في كبت النقاش العام. ولفت المحللون والاقتصاديون الى أن دولاً، مثل البحرين والأردن، أحيت أخيرا مجالسها الاشتراعية البرلمانية الا أن الآليات التي تساعد في ممارسة عملية المساءلة في المنطقة لا تزال ضعيفة بسبب تركز السلطة في الجهاز التنفيذي بشكل مفرط وتقييد القنوات المتاحة للمواطنين للمشاركة في عملية الادارة العامة علاوة على أن التنافس النزيه والمنهجي على المناصب الحكومية لا يزال نادرا في الغالب. خسائر فادحة وأكدت دراسة البنك الدولي أن ضعف الشفافية والمساءلة وبالتالي نظام الادارة العامة ككل انعكس بشكل خسائر فادحة تكبدتها الاقتصادات العربية التي سجلت تراجعاً مستمراً في انتاجيتها طوال العقود الثلاثة الأخيرة، ولم يتجاوز متوسط نمو نواتجها المحلية المقومة بنصيب الفرد 0.9 في المئة منذ عام 1980 وهي نسبة تقل عن المتوسط الذي حققته منطقة أفريقيا جنوب الصحراء التي تضم أكبر عدد من الدول الأكثر فقراً. واعتمد المحللون الدوليون نتائج دراسات منفصلة ولكن ذات صلة أظهرت أن الدول العربية كان يمكن أن تزيد المعدل السنوي لنموها الاقتصادي بما لا يقل عن واحد في المئة لو أنها رفعت أداء ادارة قطاعاتها العامة الى المستوى الذي حققته دول ذات اقتصادات عالية الأداء مثل ماليزيا واندونيسيا في العقد ونصف العقد الماضيين ولترتب على هذا التحسن الاداري مضاعفة متوسط دخل الفرد في المنطقة. وتشير تقديرات البنك الدولي الى أن متوسط دخل الفرد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ارتفع من 1800 دولار عام 1985 الى 2230 دولاراً عام 2001 ما يعني أن الاقتصادات العربية ومعها الاقتصاد الايراني خسرت في الفترة بين العامين المذكورين قرابة 460 بليون دولار وذلك بشكل فرص كانت مؤهلة، أقله نظريا، لزيادة الدخل لكنها أزهقت بسبب ضعف نظام الادارة العامة. لكن كبير الخبراء الاقتصاديين في البنك الدولي تشارلز همفريز الذي قاد فريق المحللين في اعداد الدراسة اعترف ب"صعوبة حصر مفهوم نظام الادارة العامة في بضعة مقاييس تجريبية يمكن مقارنتها عبر البلدان" وبأن المحاولات التي بذلت لتعريف الأبعاد الأساسية لماهية الادارة العامة الجيدة افتقرت الى الموضوعية بسبب اعتمادها على آراء شخصية في الغالب، مشيراً الى أن ندرة المعلومات في هذا المجال في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تجعل المهمة أكثر صعوبة.