في تعليق الكاتبة راغدة ضرغام على مقالنا "بيد عمرو... ان لم تسارع ايدينا بالتغيير" "الحياة" 13/8/2003، رصد أمثلة عدة لامكان التغيير بأيدينا "الحياة" 15/8 من دون حاجة لانتظار التغيير بأيد اجنبية او حتى ضرورة الانتظار الى ان تقوم الحكومات العربية بهذا التغيير. من ذلك خطة الشباب الفلسطينيين في الضفة والقطاع للمقاومة البديلة والتي تعتمد اساليب سلمية عدة منها ما يندرج تحت ما كان يطلق عليه المهاتما غاندي اسم "العصيان المدني". وهي استراتيجية يلجأ اليها المتفوقون معنوياً والمستضعفون مادياً. واستطاع غاندي ان يحول ضعف عشرات المدنيين الهنود الفقراء المجردين من السلاح الى قوة قهرت جيوش الامبراطورية البريطانية العظمى، فاضطرت في النهاية للانسحاب من شبه القارة الهندية عام 1947، بعد ثلاثة قرون من الاحتلال. واكتشف الزعيم الزنجي الاميركي مارتن لوثر كينغ، ان استراتيجية غاندي في العصيان المدني هي الاكثر ملاءمة لاقناع الاميركيين البيض، الاكثر عدداً وثروة وتنظيماً وقوة، بالتسليم بحقوق الاقلية الزنجية 20 في المئة في المساواة المدنية والسياسية، خلال عقد الستينات من القرن الماضي، اي بعد غاندي في الهند بنحو عشرين عاماً. وحققت حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كينغ للزنوج الاميركيين ما لم تحققه لهم الحرب الاهلية الاميركية قبل ذلك بقرن كامل 1865-1868، على رغم كل ما انطوت عليه من عنف ودمار، وعلى رغم ان الشمال انتصر عسكرياً في تلك الحرب على الجنوب الذي حمل السلاح للدفاع عن نظام العبودية الذي كان سائداً حتى تاريخه. ان اختيار بعض الشباب الفلسطيني أساليب المقاومة المدنية السلمية الشرعية، وعلى النحو الذي شرحته راغدة ضرغام تفصيلاً، هو نموذج لما يمكن لفئات اخرى ان تقوم به من اجل التغيير في اقطارنا العربية من المحيط الى الخليج، ليس فقط ضد المحتل الخارجي - كما في الحال الفلسطينية او الحال العراقية - ولكن ايضاً ضد المستبد الداخلي. إن العصيان المدني هو اسلوب سلمي راق للتغيير في مواجهة الجمود السياسي والاجتماعي والثقافي. وهو اسلوب قد يكون اكثر ملاءمة للغالبية من الناس في بلادنا، لأنه لا يتطلب منهم ان يكونوا جميعاً شهداء يضحون بأرواحهم، ولا يتركهم في سلبية كاملة يضحون فيها بمستقبلهم، او في كلمات راغدة ضرغام "بديل ايجابي بين المناطحة والانبطاح". والشاهد ان هذه المبادرة الفلسطينية الجديدة، لو اكتملت، ستكون امتداداً لابتكار شعبي فلسطيني سابق، بدأه اطفال الحجارة في اواخر الثمانينات، وحقق للقضية الفلسطينية خلال سنوات الانتفاضة الأولى الأربع اكثر مما حققه النضال السياسي العسكري العربي كله خلال الأربعين سنة السابقة 1947- 1987. لكن ثمار هذه العبقرية الشعبية الفلسطينية تبددت على ايدي السياسيين المحترفين، او الإسلاميين المتشددين، في السنوات العشر التالية. وجاءت العمليات الاستشهادية التي واكبت الانتفاضة الثانية - انتفاضة الأقصى 2000 - 2002، وعلى رغم كل ما تنطوي عليه من تضحيات نبيلة لتسرب من رصيد القضية الفلسطينية الذي كان تراكم بكثافة، خصوصاً لدى الرأي العام الأوروبي، وأصبحت هذه العمليات مرادفة للإرهاب، مهما اجتهدنا نحن في تبريرها كنضال مسلح مشروع ضد الاحتلال. ولا غرابة إن جاء رد الفعل العالمي بارداً باهتاً على العمليات الانتقامية البشعة التي تقوم بها الدولة الإسرائيلية وتستهدف القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية. إذ تساوى إرهاب الدولة الإسرائيلية مع العمليات الاستشهادية الفردية. وأصبح الكل في نظر الرأي العام العالمي إرهاباً في إرهاب، لا فرق بين سلوك المحتلين وسلوك المقاومين. إن العرب ليسوا هم من يحدد المعايير العالمية لما هو السلوك الإرهابي من عدمه. إذ استقر تعريف الإرهاب على انه أي سلوك عنيف يستهدف المدنيين. وطبقاً لهذا التعريف، فإن كل العمليات الفلسطينية التي لا تستهدف عسكريين اسرائيليين هي عمليات إرهابية في نظر العالم الخارجي. لذلك فإن اساليب المقاومة المدنية البديلة تستحق التحية والتشجيع، لعلها تستعيد للقضية الفلسطينية بعض ما فقدته من ارضية وأرصدة معنوية في السنوات الثلاث الاخيرة. اما خارج فلسطين فلعل ما ذكرته ضرغام من قضايا اجتماعية - مثل المساواة في تجنيس ابناء الزوجات العربيات اسوة بالازواج العرب، وجرائم الشرف، لا في لبنان والاردن وحدهما وانما في كل الاقطار العربية - يكون موضع اهتمام الحركات النسائية العربية، وان يدعمها في ذلك كل الاحرار العرب الرجال، وكذلك الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني. واذا استمر تلكؤنا في هذا الصدد فليس من حقنا الشكوى اذا اهتم بها آخرون من غير العرب. ولن يشفع لنا التذرع بحجة "الخصوصية الثقافية" او "الثوابت الحضارية"، في حقبة تاريخية راهنة، اصبح فيها ثلاثون مليون عربي ومسلم يعيشون في الغرب، ونطالب نحن لهم بحقوق المواطنة والمساواة هناك فيما ننكرها عليهم في اوطانهم الاصلية، ثم لا نكف عن الشكوى من "ازدواجية المعايير". لنأخذ "جرائم الشرف"، التي تبيح فيها القوانين العربية تخفيف العقاب على الرجال الذين يرتكبون قتل الإناث دفاعاً عن شرف الاسرة او العشيرة او القبيلة. ان مثل هذا التخفيف يكون مفهوماً لو ان جريمة القتل كانت ضد الرجال الذين انتهكوا شرف اناث الاسرة او القبيلة، ولكن ان يقع القتل على الضحية فهو البربرية بعينها، إذ ان الانثى تنتهك مرتين، الاولى بواسطة من اغتصب شرفها، والثانية بواسطة احد اقربائها الذي يشعر بالعار. فأي "شرف" في هذه الجريمة؟ من يغتصب انثى لا شرف له، ومن يعتدي على انثى مغتصبة لا شرف له. فكيف وصل الزيف والنفاق بمن وضع القوانين من الرجال العرب ليطلقوا على هذا السلوك الهمجي "جرائم الشرف"؟ والأمر نفسه ينطبق على المشرعين العرب من الرجال الذين يعطون الجنسية لأبناء وبنات أي أب عربي متزوج من أجنبية اوروبية، او آسيوية، او اميركية، مسيحية او يهودية او بوذية، لكنهم ينكرون هذا الحق على ابناء الأم العربية اذا كانت متزوجة من اجنبي، أليس في ذلك ضرب آخر من النفاق وازدواجية المعايير؟ إن حجة أن ابناء الأم العربية من اب اجنبي يكونون ضعيفي الولاء لأوطانهم هي حجة ممعنة في التخلف، وتجافي كل قوانين الإنسان والاجتماع. إذ أن الأم هي الأكثر تأثيراً في تنشئة الأبناء، ثم ان الولاء يتكون وينمو للأرض والوطن والأمة بقدر ما تقدم الأرض والوطن والأمة لهؤلاء الأبناء من حماية ورعاية وحقوق. ولم يثبت الى تاريخه ان ابناء الأب العربي والأم الأجنبية اكثر ولاء او عطاء من ابناء الأم العربية والأب الأجنبي. ثم ماذا عن ابناء الأم السورية او العراقية او الفلسطينية المتزوجات من عرب، ولكن من اقطار عربية اخرى؟ ولماذا يحرم ابناؤهن من جنسية أقطارهن؟ إن الحوار حول التغيير هو حوار حول المستقبل. ولعل مبادرة راغدة ضرغام، ومساهمتي في الحوار تدور حول هذا المعنى. فإذا لم نبادر نحن العرب بالتغيير، لصوغ هذا المستقبل لأنفسنا، سيقوم به غيرنا، ممن يهمهم امر هذه المنطقة، لمصلحتهم هم اولاً وآخراً، ولن يجدي اي قدر من الصراخ في تجاهل هذه الحقيقة، كما لن يجدي اي قدر من الاتهامات الغوغائية التي يطلقها انصاف المثقفين ضد من ينبهون الى هذه الحقيقة. ففي خلال الشهر الذي انقضى منذ بداية هذا الحوار ظهرت تعليقات عدة، دخل بعضها في الموضوع وأغناه، وظل بعضها يقذف الناس في الداخل والخارج بالشتائم، من دون ان يقدم فكرة واحدة تتقدم بالحوار الى الأمام، او تسهم في تغيير الوطن العربي، الذي نكب بهم وبالمستبدين من رجالهم... فليسامحهم الله، ويشفهم من هذا الداء العضال. لندن - 29/8/2003. * كاتب مصري. رئيس مركز ابن خلدون.