مزامير النبي داوود عليه السلام تحكي عن السبي البابلي الاول وعن استحالة نسيان أماكن تختزنها الذاكرة. لكن عنوان الفيلم المثير "إِنسَ بغداد" forget Baghdad يتحدث عن لعنة اخرى. لم تكن بابل المزامير سوى أرض السبي للمهزومين، بينما تحولت اسرائيل، الوطن المفترض، والملاذ، لمن هرب من مسقط الرأس، الى مكان تتصارع فيه الذكريات: ذكريات الوطن الأول ومسقط الرأس مع تجربة الوطن "الآخر" وهو أمر يستحق التأمل. يحكي الفيلم عن مصائر رجال اربعة وسيدة، انتقلوا في صباهم من بغداد إلى اسرائيل ليكتشفوا ان وطنهم الجديد ليس سوى منفى. ليندفعوا مرة أخرى إلى مناف اختيارية خارج اسرائيل. اربعة كتاب يهود من العراق وجدوا أنفسهم في مأزق: "وطني الآن عدو لمسقط رأسي". موضوع الفيلم كما رأيته هو "البحث عن المصائر الضائعة". فالمخرج سمير من دون لقب عائلي! ابن لعراقي هاجر الى سويسرا. يبحث بواسطة الفيلم، عن اصدقاء والده، الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي العراقي حينما كان في العراق. يكتشف انهم لا يعرفون والده. يجلسون معه ليتبادلوا الذكريات و"يرنموا في ارض غريبة" ترنيمات وطنهم السابق الذي لم ينسوه. ولدوا في بغداد ودرسوا العربية وأدبها وناضلوا مع العراقيين، تنزعهم اقدار وتقذفهم في ارض اخرى. يتمسكون بمفاتيح صباهم البغدادي، مثلما تمسك عرب الاندلس والفلسطينيون بمفاتيح بيوتهم المغتصبة منهم. منذ حوالى اربعين سنة وصلوا اسرائيل مرغمين بعد مذابح - الفرهود - البدو العراقيين حينما اجتاحوا بغداد سيجد القارئ المتابع تسجيل هذه الوقائع في الرواية الجميلة "وداعاً بابل" لنعيم قطان - دار الجمل. شمعون بلاص، وسامي ميخائيل، وسمير نقاش، وموسى حوري، و"اللا حبيبة شوحات". ولفت انتباهي موقفهم من اللغة. فسمير نقاش يواصل الكتابة بالعربية حتى الآن ولم يُترجم له سوى كتاب واحد الى العبرية. أما سامي ميخائيل فقد بقي فترة طويلة يكتب بالعربية عموده في جريدة "الاتحاد" التي اشرف عليها الراحل اميل حبيبي. لكنه اكتشف بعد حوالى ثماني سنوات ان لا بد له من الكتابة بالعبرية، إذا كان يريد للإسرائيليين الذين لا يعرفون العربية ان يقرأوا ما يكتب، بخاصة انه تخصص في الكتابة عن احوال عرب اسرائيل وما يلاقونه من عنت. يحكي سامي ميخائيل واقعة بالغة الاهمية حينما قرر تعلم العبرية، والتوقف نهائياً عن استخدام العربية حديثاً او كتابة. يصل الى منزله ليلاً ويتناول كتاباً لطه حسين، للقراءة قبل النوم. لكن النوم جافاه تلك الليلة حتى الصباح، بل تناوشته الكوابيس بين غفلة العين المتعبة ويقظتها. يقول: كان هذا انتقام اللغة العربية مني! سمير نقاش، يقيم الآن في لندن، وقد عانى الكثير في اسرائيل، التي يقول عنها بلهجته العراقية: "اسرائيل آذتني كثيراً وأخاف ان تواصل آذاها على اولادي". ويحكي عما حدث له في حفلة تكريم خاصة بنيله جائزة ادبية في اسرائيل، وكان ذلك متزامناً مع قصف بغداد في حرب عاصفة الصحراء. سأله احد الحضور عن مشاعره ازاء القصف، فقال انه حزين ومستاء. يقول هاجت القاعة وصاحت: ارجع الى هناك... إذاً! سامي ميخائيل يدرّس الأدب العربي في اسرائيل لكنه يقضي وقته في شقته في باريس. فعلى رغم انني مثل كثيرين غيري لم نهاجر نهائياً الى الغرب، الذي تمتد - الآن - في ترابه جذور اولادنا، الذين لا يعرفون وطناً لهم سوى "هنا" بينما اواصل انا مثل غيري المراوحة بين هنا و"هناك"، التي هي الوطن الاصلي ومسقط الرأس ومثوى الاسلاف والأحبة. اعرف انني اعيش "هنا" وأكتب بلغة لا أتخاطب بها إلا لماماً...ولا أجيد سواها مهما رطنت بلغات اخرى. اتحادث مع زوجتي وأولادي بمزيج من الانكليزية والهولندية والعربية. احلامي الليلية تختلط فيها اللغات العربية والانكليزية والهولندية واحياناً البولونية التي درست بها المسرح هناك في بلد "لم يكن وطني!". وأحياناً يصعب عليّ كثيراً فهم ما يقال لي في احلامي بمفردات غير واضحة من لغات متداخلة! حملت "ايلا شوحات" كتبها وذهبت الى نيويورك لتقيم فيها بعد ان اصدرت كتابها عن عنصرية السينما الاسرائيلية. تحكي في الفيلم عن عذاب سنوات التكوين في اسرائيل حينما احست بالفارق بينها وبين اليهود الآخرين الاشكيناز الذين تعطيهم امهاتهم غذاء غربياً، بينما تعطيها امها غذاء تلقيه في الطريق الى المدرسة لأنه يكشف هويتها الشرقية. لذيذ ولكن رائحته فواحة. وهكذا اطلق التلاميذ الاشكيناز على السفارديم لقب "مطلقو الروائح". تقول: "وجدت نفسي اكره والديّ وأرغب في عدم الاعتراف بوجودهما والخجل من جدتي التي تعيش معنا في اسرائيل ولم تعرف سوى اللهجة العراقية. حينما اقمت فترة في الاسكندرية اكتشفت مصادفة البناية التي كان يعيش فيها كفافيس. الاسكندرية ليست مدينتي، التجأت اليها بعد الافراج عني في معتقل الواحات الصحراوي لعلي كنت ابحث عن فضاء البحر وأقمت في منطقة لها اسم اغريقي "كيلوباترا". وبالتأكيد تمشيت في شوارع ذَرَعتها خطوات كفافيس القلقة. كتب باللغة التي يعرفها ويجيدها. كفافيس عاش في الاسكندرية يكتب بلغته الأم واحياناً بالفرنسية. كانت الاسكندرية ملاذه ومهبط قصائده التي قرأتها ألسنة البشر المختلفة". أتمشى في شوارع أمستردام وأشاهد الرسامين من مختلف الجنسيات يفترشون الأرصفة واستمع الى موسيقى من اميركا اللاتينية وافريقيا. أشعر بالحسد تجاههم، فهم يحملون لغتهم العالمية ولا يعنيهم بأية لغة يتحدث من يشاهدهم او يستمع اليهم. لا أنسى لغتي ولا أنسى مسقط رأسي مع أنني كثيراً ما أنسى اسماء احبائي! قال البيروني: "والى لسان العرب نقلت العلوم من اقطار العالم وحلت في الافئدة وسرت محاسن اللغة منها في الشرايين والاوردة وإن كانت كل امة تستحلي لغتها".