في أرجاء بيتي الصغير أتناثر وكتبي على المائدة وفوق الرفوف، على سريري والكراسي وطاولة الطعام وإلى جوار التلفزيون، لذلك فبيتي يضيء بالأفكار حتى في سباتنا، هناك أفكار تحرسنا متيقظة تعني ما تقول تضحك وتبكي تفرح وتتساءل، هناك حياة ذات معنى لم ينته ولن ينتهي. أجيد الاعتناء بمحسوساتي لأنني أحيا في دوائرها وأركانها ومنحنياتها. وأتقاسم هواء الكائنات في شرايين مشتركة. لذلك يوجعني أن أقلب وجه أحد كتبي وأتركه مفتوحا على صفحتيه لأعود إليهما، أشعر بأن أحدا ما أحالني إلى حالة من الذل تشبه حالة صنيعي بالكتاب. لا أهش بأحد كتبي شيئا أو أضعه في درج أو أبعده عن حياتي اليومية. لا أعقف إحدى أصابعه أو ألوي ذراعه على ناحية لأعلم على جسده فأعرف أين أنا وأفرق بين ما قرأت وما سأقرأ. فإذا نسيت محطة وقوفي أختار أن أعاود قراءتي على أن أثني طرف صفحة وأحدث فيها أيّ ألم. يجرح خاطر الكتاب كما يجرح عيني من لايعبأون بالكلمة ويكتمون أنفاسها بصمغ ورقة السعر على الغلاف. لماذا ؟! مرنت ذاتي على تجاوز الاسم إلى المحتوى فامتلكت مهارة موت المؤلف لأجل حياة الكتاب، ولذلك فلم أعد أتخذ موقفا من أي كتاب واتخذت من مؤلفه موقفا، أفتقد بوصلتي حين أفتقد كتابا. أبذل كثيرا من الجهد لتفقد كتبي باستمرار ومراجعتها وأوصي ذاكرتي بإتقان علامات الطرق للاهتداء إليها. لم أتخل عن كتبي وكما عاشت فيّ ؛ عشت فيها. أنصت إلى خشخشة كتاب يناديني ألبيه، إذا لم يكن قريبا من ناظري أبحث عنه وأحتويه فلا يهدأ إلا وقد ترك إلهاما ما ّفيّ . لم أقسُ على أحد كتبي بتجاهله أو هجره، لم أفرط في كتاب خصصت به نفسي وعاش في كنفي، لم أتبرأ من كتاب، بإهدائه سواي. أنا وكتبي نلتف ببعضنا في حلقة نقاشية مثيرة أتحدث إلى أحدها وأشارك آخر رأيا وثالث فكرة نادرة، فنخرج بمشروع فكري مذهل، نعتني ببعضنا كما أننا نعيش معاً. بجلوسي في السيارة، أشعل الطرقات، بالقراءة في صفحات كتاب ما، إلى أن أصل إلى مكاني الذي أقصده. لاتخلو حقائبي من الكتب، حقيبة سفري وحقيبة يدي كذلك. قلبي حقيبة ..ذاتي كتاب. الكتب إرث شخصيّ جدا نخسر بافتقاده جزءا من ذواتنا المرشوشة بين الصفحات. بافتقاد مكتبتي القديمة في بيت الزوجية خسرت بعضي في كتبي الأليفة الصفراء والبيضاء بروائحها الأنيقة التي كنت أتغذى على قمح سنابلها وهي تتمايل بسرب صفحاتها كلما حاولت أن أقرب فمي إليها لأرسم قبلاتي على إهداءات الأصدقاء في صفحاتها وتسبقني فتأكل شفتيّ قبل أن أستمتع بطعم خبزها وخصوصية مذاقها. ذات ظلمة لمحت ضوءه يبكيني خافتاً وكأنني غرست في قلبه خنجرا فمصباحي يقرأ ويستوعب كل حرف ومعنى وكلمة وإشارة أكتبها ويتنفسني بعمق رئة كونية. ولقد كنت أبسط حضني كل ليلة لمصباحي لينام وأستيقظ فأجد عينه الحمئة تحرسني وهي تقيس مد بصرها ومسافاتها الضوئية لتتناسب وحدقتي تخشى علي من أيّ قبس أن يكدر نومي. عاهدت مصباحي الصغير الذي ساهرني أياما ليطرد عني وحشة وحدتي أن أشاركه الحياة وأن لا أبدله بأي ذكر. لاأعتزل ومن حولي كتبي الحيّة وموسيقاي الأم ومصباحي الأب وناقدي الحاسوب وضميري المنبه.