لعلنا ومن فرط ما عانينا، من فرط سوء ما يخيم علينا نستدعي أو حتى نتمنى أي تغير، غير مدركين أنه قد يحتوي على الأسوأ. فالتغيير هو مغايرة ما هو قائم. لكن هناك فارقاً كبيراً بين تغيير الثياب أو المسكن وبين تغيير المعطى السياسي أو المجتمعي. فالتغيير في الواقع الاجتماعي لا يستند فقط الى إرادة من أعلى أو من أسفل أو حتى من السيد "عمرو" الذي يفزعوننا به، وإنما يستند إلى توازنات قوى، وإلى مسلك ومنهج ومحتوى مجتمعي، أي أن افتقاد النسق المجتمعي العام باتجاه التقدم، وافتقاد توازن داخلي للقوي يتوازن باتجاه صاعد، قد يؤدي الى تغيير ولكن الى الأسوأ. ولعل النموذج الكلاسيكي الذي اعتاد علماء الاجتماع السياسي إفحامنا به - وهم الى حد ما على حق في ذلك - هو نموذج جمهورية فيمار في المانيا، فقد كانت الديموقراطية التي تواجدت في قمة السلطة وعبرها واسعة جداً لكنها كانت معزولة في المستوى الحاكم، ذلك أن هذه الديموقراطية هبطت من أعلى على مجتمع تسوده علاقات متسلطة بدءاً من العائلة الى المدرسة الى الشركات. كان الآباء والأزواج طغاة، والمدرسون مستبدين، والشركات يرأسها متغطرسون. هنا يسود نسق مجتمعي يسمى "انسجام أنماط السلطة داخل المجتمع الواحد وتوافقها مع بعضها البعض". ولهذا انهارت ديموقراطية فيمار، تقوضت من داخلها. وليس معنى ذلك أننا لا نريد التغيير او حتى لا نستعجله، لكننا يتعين علينا أن نخوضه كمعركة شاملة تستهدف تغيير فكرية المجتمع وفكرية قواه الفاعلة، أقصد فكرية الحكام والمحكومين معاً، وإلا جاء التغيير إما وقتياً يظهر ثم ينحني تحت وطأة واقع مجتمعي لا يتقبله، كزراعة عضو في جسد مختلفة أنسجته، أو أن يأتي سلبياً. إن الأوطان العربية عاشت حقباً في ظل استبداد متأصل الجذور في الاسرة والمدرسة والعمل والسلطة، وعاشت طويلاً وربما لم تزل - متطلعة الى التقدم خلفاً، أي متصورة ان الزمن الذهبي يكمن في الماضي السحيق، وهو ماضٍ كان الاستبداد فيه شريعة. كما ان القوى الديموقراطية والليبرالية فيها ضعيفة، او مستكينة او متآكلة بفعل الخوف او الحاجة أو الغشاء السلفي المتراكم. من هنا فإن افراز التغيير من الخارج او من اعلى فقط في ظل مناخ كهذا ممكن شكلاً كأن تقدم الشراب ذاته ولكن في آنية جديدة وربما كانت أنيقة. ولعل من حقي - أو حتى من واجبي - أن أورد هنا تجربة تغيير عملية قمنا نحن بها في "حزب التجمع" - مصر - منذ بداية فجر أو ليل التعددية - سيان - أدركنا صعوبة المرتقى، وأن ما يحكم علاقتنا بالحاكم والحكم هو سياسة الخيط والعصفور، الحاكم يربط عصفورنا بخيط في ساقه، ويتركه محلقاً. لكنه يحلق وفق المسافة المتاحة للخيط وتغيير المسافة وفق المتطلبات او حتى وفق الهوى. فهل نرفض لعصفورنا أن يحلق ولو لمسافة محدودة؟ بالطبع لا. لكننا لعبنا لعبة فريدة وطويلة الأمد. لعبة نسميها "بالتطعيم". قررنا ان نعطي الحاكم والمحكومين جرعات محدودة جداً ومتواصلة دوماً من ذلك "الفيروس" المسمى بحق الاعتراض أو حرية التعبير أو الديموقراطية. في البداية فزع الحكم وامتقع وجهه وجذب الخيط الى أدنى مدى حيث اقتربنا من القفص وتوافدت مئات من كوادرنا الى السجن. لكنه سجن محدود لأن كمية الفيروس محدودة. ورويداً رويداً تراكمت متغيرات لم يشعر بها لا الحاكم ولا المحكومون. دخلنا السجن وخرجنا مرات عدة، صودرت جريدتنا "الأهالي". ثم صدرت، وتوالى ذلك مرات عدة. تعرضنا لحملات اعلامية من شد وجذب، ثم وعلى المدى الممتد نجحنا في ان نغير ميزان القوى وإن في شكل محدود، استطاع الحاكم أن يتحمل انتقادنا واستطاعت الجماهير ان تمتلك شجاعة المماثلة مع ما نفعل، واستقرت علاقات تتصاعد معطياتها الى أعلى لمصلحة الحال الديموقراطية وإن ببطء شديد. وليس معنى ذلك أننا نبشر "بفابية" سياسية، فنحن طالبنا ولم نزل بديموقراطية حقيقية، لكننا نستمدها من منبعها الاصلي، من تصحيح توازن القوى في المجتمع لمصلحة الليبرالية وتعددية الرأي والفكر والديموقراطية السياسية. كمنوذج أخير: مع تصاعد الانتفاضة تصاعد فعلنا في الشارع دفاعاً عنها وكان هذا امراً غير مسموح به، لكن الواقع الذي يغلي فرض على النظام أن يتقبل ما لم يكن يقبل. ثم تصاعد فعلنا في الشارع رفضاً للغزو الاميركي للعراق في شكل منفرد وبعيداً من الارادة الدولية ممثلة في الاممالمتحدة. وبعدها اعتاد الشارع أن تطرقه اقدام المتظاهرين وإن في شكل محدود ثم - ومع هذا الاعتياد- كانت تظاهرة امام مجلس الشعب البرلمان تطالب باستقالة او اقالة حكومة عاطف عبيد. أما الديموقراطية فلها تعريفات شتى. وغني عن القول إن الديموقراطية ليست مجرد مواثيق مكتوبة دستور وقوانين وانما هي ايضاً ممارسة فعلية. ويثور جدل دائم عن ايهما الافضل او ايهام اجدى أو أبدى. ويذكرني ذلك بالأحجية الفلسفية القديمة المسماة "حمار بوريدان" ذلك الحمار الفلسفي الذي كان جائعاً وعطشان الى حد الهلاك فوضعوا له طعاماً وشراباً، لكنه ظل متردداً هل يأكل أولاً أم يشرب، حتى مات. تخلصنا من عقدة هذا الحمار. نحن نريد الاثنين معاً وفوراً ولا نفضل احدهما على الآخر. كلاهما ضروري، وهما معاً على القدر ذاته من الاهمية، فالاوراق المكتوبة التي لا تجد معطياتها سبيلاً للتحقيق تعطي للظالم ورقة توت يستر بها ظلمه. والتطبيق بلا نصوص مصانة ومحترمة يتحول الى صدقة يتفضل بها من يمنحها. واليد العليا خير من اليد الدنيا. ومن يملك المنح يملك المنع. والديموقراطية على اختلاف تعريفاتها يمكن تلخيصها في: - ضمان الحريات العامة. - ضمان حق الإنسان في الاختيار. - ضمان المصالح الاساسية للفرد. - ضمان التكافؤ بين القوى السياسية او العرقية او الدينية. ولأن المواطنين يختلفون في مستوياتهم الفكرية والاجتماعية والمعيشية فإن بعض الحكام راهن ونجح في رهانه، قدم للفقراء بعضاً من خبز وبعضاً من مكانة اجتماعية، فنسوا ما تبقى من معطيات الديموقراطية، بل اعتبروها ثرثرة مثقفين يعيشون في غيوم بعيدة من الجماهير. ألم نكن نحن نسجن ونعذب ويقتل رفاقنا في سجون مخيفة، لا أريد أن أصفها، بينما جماهير العمال والفلاحين الذين نزعم نحن اننا ندافع عنهم تصفق عالياً وبحماسة مخلصة وغير مفتعلة لعبدالناصر؟. ولم يتلقن المصريون او الفقراء منهم الدرس الا أخيراً عندما اكتشفوا ان افتقاد الديموقراطية اودى بالتجربة الناصرية وأودى معها بكل ما حازه الفقراء من حقوق. والديموقراطية فعل اجتماعي ومجتمعي يقوم كما قلنا على اساس توازنات القوى، ولهذا فهي ليست كاختراع ماكينة، تخترع وتتطور مع استمرار اعمال العقل في مكوناتها وممكناتها. لكنها كزهور تنبت في صحراء، لأنها تنبت في ساحة مهيأة دوماً لانبات شوك الاستبداد. فما لم نظل دوماً حراساً لها ومستعدين للدفاع عنها وللتضحية من أجلها بأغلى شيء وكل شيء سينبت شوك الاستبداد ليعيد الزهور الى قبورها. لهذا يجب في دولة العالم الثالث ان نظل دوماً يقظين ومستعدين للتضحية من أجل حماية جنين الديموقراطية الذي انبتناه، واتذكر قول ولي الدين يكن "مساكين هم انصار الحرية، يذهبون ليكفوا عنها اسرها فيقعوا هم في الاسر". أما "يد عمرو" فإنني استعيد معها وبها بعضاً من تاريخ مصر. كان كرومر السيد البريطاني المهاب في مصر يحكم قبضته على عنق الوطن لكنه كان يسمح للكتاب والمثقفين بأقصى قدر من حرية الصحافة، يكتبون أي شيء، يشتمون أي شيء، يتطاولون على كل شيء حتى على الاديان السماوية. فقط لا يقتربون من الاحتلال، ولا يطالبون بالاستقلال. وفي الوقت نفسه نظم الري والصرف فتحسنت الزراعة وارتفع مستوى المعيشة. وبدأ هو يتحدث عن انعاماته على المصريين فرد عليه المصريون على لسان شاعرهم: يمن علينا أن قد أخصب الثرى وأن أصبح المصري حراً منعما وأنك اخصبت البلاد تعمداً وأجدبت في مصر العقول تعمدا و"يد عمرو" الحالية هي اليد الاميركية التي يروعوننا بها، أو يحاولون ان يقتادونا بها كالخراف الى حظيرة الحرية كي يصبح "المصري حراً منعماً". ولعل ابيات الشعر السابقة تنطبق على الحال الاميركية في العراق، باستثناء أفدح هو أن العراقيين فقدوا امنهم وحريتهم وحرية وطنهم ولم ينالوا للبلاد خصباً بل جدباً. ويتطاول بوش معلناً انه سيبقى حتى يعلم العراقيون فنون الحكم، ناسياً أن العراقيين أدركوا فنون الحكم قبل أكثر من خمس وعشرين قرناً، والذين يبشرون بالأمن الاميركي السعيد عليهم أن يزنوا الديموقراطية بميزان العقل، بميزان يرى ما نفعل في العالم وكيف تدوس في عنجهية ما يمكن أن نسميه ديموقراطية العولمة.. وكيف تساند النازي شارون، وكيف تعامل العراقيين بعنجهية مستفزة. لكن جدتي كانت تقول "الغرض مرض". والغرض هنا يأتي من توافق غير منطقي وغير مستساغ بين مثقفين استراحوا الى حال التأمرك واستفادوا منها، وبين انظمة هي ايضاً في معظمها متأمركة وان كانت تريد ان تنفرد هي بالاستبداد بشعوبها. فبعض الحكام لا بأس عنده من أن يخضع للضغط الاميركي، لكنه يرفض وباصرار أن يشاركه الاميركيون في القبض على اعناق شعبه. ولعلي أتذكر قول رئيس لجنة اعداد الدستور الياباني عندما تعرض لضغط من الحاكم الاميركي لليابان ماك آرثر بأن يحذو حذو الدساتير الغربية فكتب "ان المبادئ والأفكار الاجنبية التي نشأت في مجتمعات مختلفة عنها، مثل تلك الافكار الغربية التي يحاولون غرسها الآن في اليابان لا تفقد عبيرها ورائحتها ومذاقها فقط، لكنها غير قادرة على النمو في تربتنا، وان نمت فستنمو عاجزة". والحقيقة أن أسهل شيء هو أن نستدعي العدو من أجل أن يمنحنا ما يقول إنه حرية المواطن، ناسين أننا بذلك نفقد حرية الوطن. الديموقراطية ليست ماكينة ستتطور بفعل التقدم العلمي، وانما هي مؤهلة للاختناق بفعل شوك السلطة. فهل سنبقى محافظين ومحتفظين بالسيطرة الاميركية أبداً؟ أم الأجدى أن نخوض معركة داخلية، مكونة من طرفين فقط: نحن والحكم. ذلك أن ما ستثمره هذه المعركة سينبع من مكون مجتمعي، بل انها ستغير المكون المجتمعي، فتبقى الديموقراطية قادرة على الصمود وعلى النمو. * الأمين العام لحزب "التجمع" المصري اليساري.